الرّموز في أدب أمين الرّيحاني
د. منير معلوف
قال المستشرق
أغناطيوس كراتشكوفسكي: "ليس لكاتب كالرّيحاني في آداب الشّعوب الأوروبّيّة
شهرة تتجاوز الحدود العاديّة. وأمّا في الآداب العربيّة العصريّة، الّتي يرجع
عهدُها إلى نحو مئة سنة مضت، فإنّ له الشّخصيّة البارزة، وإنّ اسمه ليُقرَن في
التاريخ بابتكاره أسلوبًا معلومًا خاصًّا به. ومن مزاياه أنّه متوسّع في أدبه
توسّعًا يخرج به إلى حدود المسائل العالميّة"[1]. ويعتبر
الباحثون، بحقّ، أنّ الرّيحاني كان في طليعة الـمُجدّدين في الأسلوب والأفكار،
ومُطلق قصيدة النّثر[2].
قال جورج صيدح: "إنّ الرّيحـاني جاء بأسلوب الشّعر المنثور، وبرز جبران فيه
بأسلوب باهر، لما فيه من أخيلة وكنايات وألوان وألحان تختلج بالنّبض والحرارة
والجمال، فهو في المهجر رائد التّجديد الأوّل"[3].
ويقول في
التّساهل: "التّساهل هو الطّريق وهو الحقّ وهو الحياة. وهو روح الله. هو أوّل
درجة في سُلَّم العمران وآخرها"[8]. فـالسُّلَّم
رمز ينطلق من مبدإ بسيط جدًّا: تتيح السُّلَّم للإنسان أن يصعد درجةً درجةً إلى
مكان أعلى، وأن يطول ما هو عالٍ وبعيد المنال. وهي توحي بالارتقاء من حالة إلى
أخرى، وبخاصّة على الصّعيد الرّوحيّ. ذلك أنّ الإنسان يشعر في قرارة نفسه بأنّه
محصور في مكان محدود ضيّق بالرّغم من رحابة الكون، وبالحاجة إلى استكشاف كلّ شيء .
ولا سبيل إلى ذلك إلاّ بالمُراقبة من علِ، ولا بدّ من مخرج يصله بالكون الآخر، ويُتيح له
رؤية علويّة مُختلفة. ولعلّ سيغموند فرويد وكارل يونغ ومحلّلين نفسيّين آخرين
أدركوا هذا الانطباع النّفسيّ الصّوفيّ، ووجدوا في غنى الأساطير والرّموز
الإنسانيّة والأسفار الدّينيّة أجمل تجسيد لما سمّوه العُقد النّفسيّة،
وطريقة حلّها بالتّسامي sublimation. يقول جبران في هذا المعنى: "أصبح المعلوم مطيّة
أركبُها نحو المجهول، والسّهل سُلّمًا أتسلّق درجاته لأبلُغَ الخطر"[9].
يقول الرّيحاني
في التّساهل أيضًا: " هو الألف وهو الياء"[13]. فالألف
أوّل حرف في الأبجديّة، والياء أخر حرف فيها، وهذا رمز إلهي عند المسيحيّين،
وفي اليونانيّة Α Ω، فالله هو الأوّل والآخِر،
البداية والنّهاية[14]. وكأنّ
هذين الحرفين يحويان مفتاح الكون الّذي يقع بين هذين الطّرفين. ويرمز الألف والياء
أيضًا إلى كمال المعرفة وكمال الوجود وكمال الفضاء والزّمان. وقد استخدم العالم تيار
دو شاردان Teilhard de
Chardin[15] هذا الرّمز ليطرح "نظريّة التّطوّر" الّتي تتناول مسألة تدرّج
تطوّر المخلوقات شكلًا ووجدانًا. بحيث تكون "الألفا" بداية الكائنات
و"الأوميغا" نهاية مسيرة التّطوّر حيث الاتّحاد بالله[16].
الألِف أيضًا رمز الوحدة والمبدأ والاستمرار والثّبات، ورمز العلاقة
بين ما هو فوق وما هو تحت، بين السّماء والأرض، وهي رمز القدرة والطّاقة وأصل كلّ
شيء. وقد سُمّيت ألفًا "لأنّها تألَف
الحروف كلّها، وهي أكثر الحروف دخولًا في المنطق، ويقولون: هذه ألف مؤلَّفة. وقد
جاء عن بعضهم في قوله تعالى: الألف اسم من أسماء الله"[17]. أمّا الياء فهي
الوعاء أو الإناء الإلهيّ، ونهاية كلّ شيء، وكمال المخلوقات، وتمام الأمور. وهي
مآل الجميع حيث المستقبل يصبح الحاضر، ويمكن أن تشعّ على جميع الاتّجاهات في
الطّبيعة وتجمعها وتوحّدها.
وفي قول
الرّيحاني دعوة إلى التّساهل صادرة عن رغبة إلهيّة. وهو يدعو إلى العُزلة والهدوء،
رأى أنّهما يؤدّيان إلى الحكمة والحقيقة. قال: "هذه حالة لا بدّ منها لكلّ
مَن تنبّهت فيه الرّوح. إنّها أوّل طور من أطوار الفيلسوف، وأوّل
ريشة في جناح الشّاعر. أوّل حادثة خطيرة في حياة الأولياء والأنبياء. وأوّل
عقدة روحيّة عقليّة يقف عندها أكثر الـمُفكّرين"[18].
فالدّين الّذي يدخل في الدّائرة العظمى، أي الله،
أدخلناه في دوائر مدنيّة أحطّ مستوًى، لنستغلّه لمآربنا الدّنيويّة. ويدعو
الرّيحاني للعودة إلى الطّبيعة عند اشتداد المِحن فيقول: "مهما اشتدّت
الاضطهادات على ذوي الأفكار فهم لا يُحرَمون كوخًا يلتجئون إليه. تضربنا
الطّبيعة باليُسرى وتُعيننا باليُمنى. تُعدّ لنا المغاور لنلتجئ
إليها حينما يشتدّ غضبُها. وإذا حملقت فينا الهيئة الاجتماعيّة وكشّرت
عن نابها، ففي زوايا الأرض وأطرافها نفوس حرّة سامية تُنعشنا بطيب شذاهـا،
وتُجدّد فينا حرارة محبّتها الحماسة والنّشاط"[19]. فصورة
الكوخ تمثّل الضّعة والحقارة في مُقابل التّرف والرّفاهيّة وعظمة القصور. والكوخ
أيضًا ملاذ وملجأ من ضلّ أو داهمته الأخطار.
ويُشير
الرّيحاني إلى أخطار الطّبيعة، فيقول إنّها لا تضرب لتؤذي، لأنّها تضرب باليُسرى
في إشارة إلى اللين. ثمّ تُعيننا باليُمنى، في إشارة إلى الجود والمُساعدة والخير.
ويستعير الرّيحاني الحركة الجسديّة رمزًا، فيقول إنّ الهيئة الاجتماعيّة إذا حملقت
فينا، أي نظرت إلينا شزرًا، في إشارة إلى الغضب، وإذا كشّرت عن نابها، في إشارة
إلى الرّغبة في الأذيّة، فلنا في الطّبيعة مَلاذ. أمّا حرارة المحبّة فرمز الدّفء
الّذي ينتج عن الضّمّ والعناق. ومَن كانت له المحبّة لا يشعر بالبرد لأنّه ليس
وحيدًا بل تُدفئ قلبه عواطف الآخرين وحبّهم.
ويقول الرّيحاني: "الّذي يكتب ليرضي النّاس [...] يُجاريهم على ما
يشاؤون، ويخوض عُباب البحر جاريًا مع الأمواج، سائرًا مع التّيّار
العامّ"[20].
فهو يتّخذ من الأمواج رمزًا للعوامل والأفكار والمبادئ الّتي تجرف النّاس
بقوّة، ومن التّيّار المائيّ رمزًا لتوجّه ومذهب ونهج ينتهجه بعض النّاس
بدون إرادتهم، أو لأنّهم رأوا فيه السّبيل الصّحيح. ويقول مُستجمعًا رموز الحرب: "ماذا يهمّني من حرب لا روح للشّعب في نارها،
ولا أثر للحقّ في غبارها، ولا صدى للحرّيّة في دويّ مدافعها وصلصلة
حرابها"[21]؟
في إشارة إلى عبثيّة الحرب وعدم جدواها وخروجها عن إرادة الشّعب. ويُلاحَظ في
القول تزاوج رموز الحرب القديمة والجديدة: النّار، الغبار، صلصلة الحراب، دويّ
المدافع.
وقال الرّيحاني يرثي فتاة ماتت غرقًا[22]:
"أيّتها السّاكنة قعر النّهر
الفضّي
أيّتها الرّاقدة تحت الأمواج
الغريبة
أنت أميرةُ اللؤلؤ، واللؤلؤُ
يلاقيكِ مُرحّبا
أنتِ ملكة المرجان، والمرجان
يمجّدكِ مُنشدا
أنتِ لا تزالين عندي أعجوبة
الزّمان
كلّما رأيتُ لؤلؤة أسألها عن
سحرِكِ
وكلّما رأيتُ مرجانةً
صبَوتُ إلى ثغرِكِ"[23].
هذا الشّعر
"لا تنحصر مزاياه بقالبه الغريب فقط، بل فيه من الفلسفة والتّصوّر ما هو أغرب
وأجدّ"[24]،
وفيه ذِكر لجواهر ترمز إلى أغلى ما يتمنّاه الإنسان على الأرض من غنًى ورفاهيّة
وسعادة. ممّا يُذكّر بسحر الفتاة الغريق وجمالها.
1.
أمين الرّيحاني، الرّيحانيّات، المقدّمة، ص 17
(كُتبت باللغة الرّوسيّة في ليننغراد سنة 1910، ونقلها كراتشكوفسكي إلى العربيّة).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق