الجمعة، 17 ديسمبر 2021

العنبر اللبناني أو الكهرمان

 

العنبر نوعان:

النّوع الأوّل هو قيء الحوت المعروف باسم حوت العنبرالاسم العلمي Physeter macrocephalus الذي يعيش  في المحيطات ويأكل ما شاء من المخلوقات البحرية، وهو يتميز برأسه الضخم ومن هنا اسمه العلميّ، وقد يبلغ طول الذكر 20 مترًا. أجود أنواع هذا العنبر هو الأشهب ثم الأزرق ثم الأصفر وأقل الأنواع جودة هو الأسود. يستخدم هذا العنبر في تحضير وتصنيع أفضل وأغلى أنواع العطور.

النّوع الثّاني هو العنبر الذي نحن في صدد البحث عنه وهو في الأساس مادّة صمغيّة لزجة تفرزها أنواع من الأشجار الصّنوبريّة وتلتصق بها بعض الحشرات والعناكب والنبات وغبار الطلع. يحتوي العنبر على مزيج من زيوت التربنتين والأحماض والكحول وموادّ عضويّة مركّبة. ومع مرور الزمن تشرع هذه الموادّ بالتبخّر البطيء والتأكسد والتفاعل، فيصبح الصّمغ شبه متحجّر ويسمّى "كوﭘال" copal ويبقى هكذا بين مليون وأربعة ملايين سنة؛ فإذا ظلت العوامل الطبيعية مناسبة، خصوصًا الضغط والحرارة والتبخّر والتفاعل الكيميائي، يتحول الكوﭘال إلى عنبر.

العنبر موجود في أنحاء كثيرة من العالم، ومن خصائصه أنّه يطفو على سطح المياه المالحة. فالعنبر البلطيقي يجمع من شواطئ بحر البلطيق ويمكن ان يكون مطمورًا في قعر البحر بفعل التغيرات الجيولوجية من ملايين السنين. لذلك عندما يتحرك قعر بحر البلطيق تطفو هذه القطع على سطح البحر لتقذفها الأمواج الى الشواطئ حيث يجمعها الهواة والتجار. وأما العنبر اللبناني فهو مطمور في طبقات أرجيليّة غالبًا تحفظه من الفساد.

العنبر اللبناني مستوعب لذاكرة تاريخيّة تختزن حقبات العصور القديمة، وتحديدًا من العصر الطبشوري إلى العصر الجوراسي الذي شهد عصر الديناصورات العملاقة. وفي مجال البحوث التي أجريناها في منطقتنا اكتشفنا مكانين جديدين للعنبر الأحفوري اللبناني في مرتفعات بسكنتا وبقعتوتا. يشكل هذان الموقعان المكتشفان حديثًا رقمي 27 و28 استكمالًا للبحوث الجارية على الأراضي اللبنانيّة ويثريان معرفتنا بالتنوع البيولوجي القديم والبيئة القديمة للساحل الشمالي الشرقي لقارة غوندوانا[1] "Gondwana". يعدّ العنبر اللبناني من أهمّ أنواع العنبر العالميّ لأنه يوثق التنوع الأولي لكثير من سلالات الحشرات الموجودة واختفاء مجموعات معينة من الحشرات القديمة، وكذلك القول بالنسبة إلى بعض أنواع النباتات. ويُجمع العلماء على أنّ العنبر اللبناني هو الأقدم على الأرض، إذ يقدّر عمره بـ 130 إلى 150 مليون سنة. وقد بدأ الاهتمام بالبحث الجديّ عنه منذ حوالي ثلاثين عامًا أي في تسعينات القرن الماضي مع الدكتور رئيف ملكي والدكتور جورج بوينر من جامعة كاليفورنيا في بيركلي. وفي عام 2001 نشر الدكتور ملكي كتابه "العنبر اللبناني أقدم نظام إيكولوجي للحشرات في الصّمغ المتحجّر" من منشورات "البيئة والتّنمية". غير أنّ الكلام على العنبر اللبناني قديم جدًّا فقد كان الفينيقيّون يقايضونه بالبرونز في رحلاتهم البحريّة في حوض البحر المتوسّط والمحيط الأطلسي. وتغنّى الشعراء اللبنانيّون بجماله ورائحته التي تشبه رائحة البخور عند احتراقه وتردّد ذكره في الأغاني اللبنانيّة واعتبر بعضهم أنّ له قوّة سحريّة وقدرة شفائيّة. وأنواع العنبر اللبنانيّ كثيرة وألوانه متعدّدة غير أنّه هشّ وعرضة للتّفتّت. فهو لا يصلح للزّينة واستخراجه يتطلّب عناية ودقّة لكي لا يتكسّر. أمّا قيمته الأساسيّة فهي علميّة لأنّه مخزن رائع لذاكرة التاريخ الطبيعي. يقول البروفيسور داني عازار: "يعرّف العنبر في علم الباليونتولوجيا بأنّه الصمغ النباتي المتحجّر، وهو الكهرمان، وهذه كلمة فارسية من أصل يوناني تعني الكهرباء، نسبة إلى أنّ حفّ الصمغ النباتي المتحجر يولّد موجة كهربائية. يضيف عازار أنّ دلالات الكلمة تختلف وفق اللغات. فعلى سبيل المثال، تعني الكلمة في اللغة الألمانية "الحجر الذي يحترق"، أما في الروسية فهي "ينطار" وتشتق هذه الكلمة من اللغة الفينيقية (وتعني الطلاسم)، إذ إنّ الفينيقيين أول من تاجر بهذه المادة.

نسعى حاليًّا في الحركة الثّقافيّة في بسكنتا والجوار وبتوجيه من الأمين العام للحركة الأستاذ فرنسوا حبيقة لإقامة معرض خلال الرّبيع القادم 2022 للمتحجّرات ولهذا العنبر المكتشف في بسكنتا وبقعتوتا، ولمحاضرات يشارك فيها البروفسور داني عازار[2] والخبيرة الجيولوجيّة الدكتورة سيبال مقصود، ونستكمل بحوثنا الثقافيّة في لجنتي السياحة والبيئة، وسنكون على موعد مع اكتشافات جديدة وتوثيق علمي للزّهور الخاصّة بمنطقتنا مع الأستاذ رامي معلوف.  

منير معلوف

 

 



[1] قارة غوندوانا أو غواندوانا لاند (Gondwanaland) هي قارةٌ قديمةٌ لم تعد موجودةً منذ زمنٍ طويلٍ، يطلق عليها في المراجع الأجنبية اسم Supercontinent أي القارة الكبيرة جدًا لأنها كانت تضم كلًا من أميركا الجنوبية وإفريقيا والمنطقة العربية، بالإضافة إلى جزيرة مدغشقر والهند وأستراليا والقارة القطبية الجنوبية. يقدر علماء الجيولوجيا أن القارة كانت موجودةً ومتماسكةً بشكلها العملاق الذي ذكرناه منذ حوالي 600 مليون سنة أي في نهايات العصر البريكامبري (Precambrian Time) واستمرت كقطعة أرضٍ واحدةٍ تحيط بها المياه حتى نهايات العصر الجوراسي أي قبل 150 مليون سنة عندما بدأت المراحل الأولى لتفككها منذ حوالي 180 مليون سنة إذ انفصلت قطعةٌ كبيرةٌ منها وبدأت بالتحرك باتجاه الغرب، ومن ثم بعد مرور 40 مليون سنة شكلت هذه القطعة ما يُعرف اليوم بقارتي أفريقيا وأمريكا الجنوبية، ونشأ المحيط الأطلسي بينهما. في حين انفصل الجزء الشرقي من غوندوانا ليشكل القارة القطبية الجنوبية وأستراليا وشبه القارة الهندية وجزيرة مدغشقر. بعد حوالي 50 مليون سنة بدأت القارة الأسترالية بالتحرك شمالًا؛ ولا تزال أستراليا تتحرك حتى وقتنا الحالي إذ تتحرك شمالًا بضعة سنتيمترات كل عامٍ، وفي حال استمرت في حركتها ستصطدم بقارة آسيا وتغير وجه الكرة الأرضية من جديد.

[2] البروفسور داني عازار (استاذ محاضر وباحث في كلية العلوم) رئيس المجتمع العالمي لدراسة الحشرات المتحجرة انتخب للمرة الثانية خلال المؤتمر الدولي لدراسة الحشرات والمفصليات المتحجّرة The 7th International Conference on Fossil Insects, Arthropods and Amber الذي عقد في مدينة ادينبرغ، اسكوتلندا (المملكة المتحدة)، من 26 نيسان الى الاول من أيار 2016. وبالإضافة الى كونه رئيس الجمعية العالمية للحشرات المتحجرة International Palaeoentomological Society (IPS) فهو حاليًّا نائب رئيس المجلس العالمي للعنبر (World Amber Council WAC) مقره في غدانسك، بولونيا، وهو أيضا رئيس الجمعية اللبنانية لدراسة الأحافير والتطور (APEL) ، ومقرها في الجامعة اللبنانية، كلية العلوم، الفرع الثاني. وله اكتشافات جيولوجية عديدة في لبنان والعالم، منها اكتشاف 400 موقع للعنبر في لبنان، وهو أول من عثر على بقايا لدينصورات في لبنان

البروفسور عازار هو خبير عالمي في مجال دراسة الحشرات الأحفورية وتطورها. وقد ساهم على الصعيد العالمي بشكل ملحوظ في اكتشافات عديدة في تطور الحشرات والحيوانات الأخرى من خلال دراسة العنبر اللبناني والعالمي ومحتوياته. له أكثر من 150 منشورة علمية أصيلة في أهم المجلات العلمية العالمية:

Nature, Scientific Reports, PlosOne, Systematic Entomology, Annales de la Société Entomologique de France, Geobios, Comptes Rendus de l'Académie des Sciences Palevol, Naturwissenschaften, Science of Nature, Palaeontology, ZooKeys, Cretaceous Research, etc.

وقد استعملت منشوراته كمراجع في ما يزيد عن 1270 منشورة علمية عالمية استنادًا إلى موقع "Research Gate" حيث سجل البروفسور داني عازار معدل 36.06 وهو أعلى من معدلات 95% من جميع الباحثين في العالم.

البروفسور عازار هو اليوم عضو في فرق تحرير  (Editorial board) لعدة مجلات علمية عالمية، أبرزها:

Polskie Pismo Entomologiczne", "The Science of Nature (Ex Naturwissenshaften)", "Life: The Excitement of Biology".