الاثنين، 8 أغسطس 2011

مقارنـة بين أوديب ملكًا وقدموس


Oedipus at Colonus by Fulchran-Jean Harriet
Cadmus Sowing the Dragon's teeth, by Maxfield Parrish, 1908.



مقارنـة
بين
أوديب ملكًا وقدموس





مقدّمــة
         ألهمت الأساطير اليونانيّة عقول النّاس منذ أقدم العصور، فكان تأثيرها عظيمًا في المسرح والشعر والفلسفة والرّياضة والموسيقى والرسم والنّحت، حتّى في السّياسة والخطابة والدّين والقانون والأنظمة وعلم الاجتماع. وقد عرف الغرب عظَمة وغِنى الثّقافة الإغريقيّة، فانكبّ أدباؤه على دراسة روائعها، ونهَلوا من مَعينها، فباتت دراسة اللغة اليونانيّة إلزاميّةً في أوروبا لكلّ من أراد تحصيلاً علميًا في مختلف المجالات. "والثقافة اليونانيّة متأثّرة، أصلاً، بالحضارات الشّرقيّة القديمة المجاورة في فينيقية وبابل ومصر، فقد نقل اليونان نتائج الفكر الشّرقيّ من المجال العقلانيّ، وأزجَوا إلى العالم فلسفةً وعلومًا"[1]. وقد عرف العرب أنّ حاجتهم إلى الفلسفة الإغريقيّة تفُوق حاجتَهم إلى غيرها من العلوم فاستقَوا منها، ونقلوا الكثير من نظريّات أرسطو وأفلاطون وغيرهم، وأفاد فلاسفة العرب ومتصوّفوهم من هذا المَعين، ووردوا علم المنطق والجدل فاغترفوا منه وأغنَوا مبادئهم، وركّزوا فقههم على أسسه.
         ولكنّ العرب قصّروا عن التّعرّفِ فنَّ المسرح والملحمة عند الإغريق. ولربّما كان اهتمامهم بالفنون يقتصر على ما كان منها عربيّ المنبع والجذور، أو ما كان يلائم طبائعهم، ويتوافق وعاداتِهم، ويُرضي غرورَهم المترفّعَ عن التّظاهر والتّخيّل؛ أو لأنّهم ملتصقون بالبيئة الدّينيّة ومنشغلون بحاجاتهم الأساسيّة وبالفتوحات، وبنشر مبادئ دينهم، ولاعتدادهم بلغتهم وبتفوّقهم؛ فضلاً عن أنّ البدويّ لم يكن ميّالاً بفطرته إلى الدّروس الأخلاقيّة والتّحليلات النّفسيّة الدّقيقة. ويمكن أن تكون هذه الأسباب مجتمعة وغيرها وراء خلوّ الأدب العربيّ القديم من التّمثيل. ولكنّ النّقّاد أجمعوا على حقيقة ثابتة، وهي أنّ العرب لو قُدِّر لهم أن يتعرّفوا الفنون المسرحيّة والرّوائيّة والملحميّة الإغريقيّة لاغتنت ثقافتهم، وزاد علمهم، وتوسّع فكرهم، ولربّما تغيّر الكثير من عاداتهم، لأنّ باب المعرفة فكرةٌ، مَن أحجم عنها فقدَ المفتاح وبقي خارجًا…
      وإذا كان المسرح الإغريقيّ انعكاسًا لمعتقدات وتطلّعات ورؤى شعب موغلٍ في الإيمان بالأساطير والخرافات، مطبوعٍ على القبول بما تُلزمه به الآلهة ويهيّئه له القدَر، فإنّ الحياة في هذا الجوّ العابق بروح المغامرات الميثولوجية، وتدخّلَ الآلهة في شؤون الإنسان تدخّلاً مباشرًا قد جعل المسرح الإغريقيّ أشبه بطقس من الطقوس والشّعائر الدينيّة، لما يخالجه من تسابيحَ وتضرّعاتٍ وابتهالاتٍ قد تُرضي الآلهة لتغيّر القدَر المحتوم.  
        أمّا عند العرب فقد ظلّت الحال على ما كانت عليه من إهمال للفنّ التّمثيليّ حتّى منتصف القرن التّاسع عشر، عندما قدّم مارون النّقاش (1817 – 1855) في منْزله في بيروت رواية "البخيل" سنة 1848 بعدما جمع نُخبة من أصدقائه وعلّمهم التّمثيل. وكانت تلك بداية عصر جديد، إذ شكّل عمل مارون النّقّاش حافزًا للمضيّ في فنّ التّمثيل، فتتالت المحاولات، وتكوّنت فرق تمثيل، وأُلّفت مسرحيّات كان لها الأثر الحسن.
       وما يجدر ذكره أنّ الفنّ المسرحيّ "دخل إلينا في ما دخل من ألوان الثّقافة الغربيّة، حينما أخذت بصائرنا تتفتّح على أوروبة وتنتحل من فنونها وآدابها، بحكم ذلك الاتّصال الاجتماعيّ والثّقافيّ الذي ازداد توثّقًا منذ أوائل القرن الماضي" (القرن التّاسع عشر)[2].
          وقد اشتُهر في تأليف المسرحيّات الشّعريّة الشّيخ خليل اليازجي في روايته (المروءة والوفاء)، والشيخ نجيب الحدّاد، وأحمد شوقي، ولاسيّما سعيد عقل الذي أتحف الأدب العربيّ "ببنت يفتاح"، وخصوصًا "بقدموس" التي قال عنها فؤاد افرام البستاني:
     "وَلَدَت عبقريّة الشّاعر سعيد عقل في المسرح قطعةً لا يخجل الفنّ بأن ينعتها بالمأساة الحقّ، وأخرجت في الشّعر العربيّ رائعةً طالما تاق إلى مثلها، ودوّنت في الوطنيّة اللبنانيّة وثيقة لها ما بعدها... قدموس مأساة، فلها من المأساة جلال القِدَم، وكمال التّعبير، ووحدات الفنّ المدرسيّ... وخلاصة البحث أنّ الفنّ المسرحيّ يعود من قدموس بمأساة أصيلة، ويعود الشّعر العربيّ برائعة من أجمل روائعه".      
         ولكن أين منبع هذه الرّائعة؟ ومن أين استلهم سعيد عقل موضوعها؟ وبمن تأثّر؟ وما هي أوجه التّقارب والاختلاف بينها وبين رائعة صوفوكليس أوديب ملكًا؟ أسئلة تشكّل مدخلاً إلى دراسة جدّيّة تتناول الموضوع، والشّكل، والمشاهد، والفصول، والبيئة، والإطار المكانيّ والزّمانيّ، والممثّلين، واللغة، والشّعر، وأساليب الكلام من حوار ومناجاة وصلوات ومتتاليات سرديّة وكورس، وكلّ ما يمكن أن يسهم في المقارنة لاكتشاف مواضع التّقارب والاختلاف بين الرّوايتين.
             في القسم الأوّل من هذا البحث نسلّط الضّوء على موضوع كلٍّ من المأساتَين، وظروف تأليفهما التاريخيّة والثقافيّة والاجتماعيّة، ونذكر نبذةً سريعة عن حياة كلٍّ من سعيد عقل وصوفوكليس، وذلك لإظهار وجوه التّقارب ووجوه الاختلاف. ثمّ نعمد في القسم الثّاني إلى إجراء مقارنة بين المأساتَين، متناولين بالعرض والتّحليل الشّخصيّات والخورص والمكان والأقسام في كلٍّ منهما. وفي القسم الثّالث نتناول البرولوغوس في أوديب ملكًا، والفصل الأوّل في قدموس، فنحلّل المواقف انطلاقًا من التّحليل العامليّ والتّرسيمة العوامليّة.   
       نبدأ بحثنا هذا، ونحن واثقون أنّ الإحاطة بجميع جوانب القضايا التي يمكن أن تتناولها دراسة مقارِنة شاملة لهذا النّوع من الرّوائع أمر صعب، وأنّ الطريق شائك، وإنْ شكّل البحث الألسنيّ عاملاً إيجابيًّا مساعدًا؛ ولئن كان الغوص في هذا الأمر الخطير يفتح أمام الباحث آفاقًا جديدة ، فإنّه قد يُدخله سراديبَ ومتاهاتٍ غريبةً، حيث يُضطرّ إلى تلمّس طريقه ليخرج إلى فضاء المعرفة ولذّة الاكتشاف، على حدّ ما جاء في إحدى المحاضرتين اللتين ألقاهما في بيروت أحد علماء الألسنيّة، جورج مونان: "إنّ الباحث يدخل البحث الألسنيّ كأنّه داخل غابة دغلة، ما من إشارة ولا لافتة تساعده في شقّ طريقه فيها. فيسير على غير هدى، حتّى ينتهي،
إمّا في باحة مشرقة تتفرّع منها الجادّات، وإمّا إلى طريق مسدود"[3].
         إنّ الهدف الأساس من هذا البحث هو تذوّق النّتاج الأدبيّ، وإبراز مواطن الجمال فيه، لأن الدّراسة الموضوعيّة تقضي بالانفتاح والمقارنة، لمعرفة مكانة الأثر الأدبيّ الوطنيّ بين الآداب العالميّة؛ وأمّا الانطواء على الذّات واجترار الأدب القوميّ فهو موت وانحلال. ونحن إذ نَعرِض لهذه المقارنة من وجهة نظر موضوعيّة محايدة، نتوخّى التعمّق العلميّ الصّحيح، الذي يساهم في توسيع إطار المعلومات وشموليّتها، فتتلاقى الثّقافات والحضارات، وهذا هو الهدف الرّئيس الذي يسعى إليه المنهج المقارن في الأدب.
 


[1] . وليم الخازن، الحضارة العبّاسيّة، ط 2، ص 103.
[2] . أنيس المقدسي، الفنون الأدبيّة وأعلامها ، ص 536، 537.

[3] . جريدة النّهار 21/ 3/ 1975