الثلاثاء، 18 يونيو 2013

أنت فاتنتي. لِم لا...؟


   من ندوة حول كتاب الشعر جوزيف مارسيل مقصود 28 ايار 2013 

من سحر عيون حبيبته وعطرها العَبِق يطلّ علينا شاعر بنجوى روحيّةٍ، تخالها شطحاتِ ناسكٍ زاهدٍ متصوّفٍ، بحوّائه، فاتنتِه. لمِ لا؟! فعنوان كتابه باسمها وهو مطرّز في قصيدة تحت عنوان "عطرُها العبِق" (كما طرّز اسم "سمر" في قصيدة "أميرة الشّرق")وقد أوضح رأيه في الشّعر في قصيدته "ما الشّعر؟" ص 43 فرأى أنّه انشراح وغياب ويقظة وانشطاح ولمحة وشطحة. فمن هو جوزف مقصود؟  
باحث قدير وشاعر فذّ، أنيق العبارة متين السّبك واسع الخيال رقيق العاطفة. لافت بتواضعه وصدق محبّته ودماثة أخلاقه. يقول عن نفسه 
أنا نايٌ يشي لحنًا شجيّا         يرنّمُ، يا  له نغْمًا  نغيّا 
أنا حلْمٌ تراءى مشرقيّا       تراه اليوم مقدامًا كميّا 
جلتُ بين قصائده كما بين مساكب زهور متناسقة الألوان، من كلّ باقةٍ فيها يضوع أريجٌ فارق، وتتماوج على نسْمات عواطفه فتتمايل وتتهادى بإيقاعات راقصة على لحن أو فكرة أو صورة أو إيحاء. هذا إلى رومنسيّة فريدة تسمها نجوى نديّةٌ رقيقةٌ ومناغاةٌ لعوب.  
في كتاب جوزف مقصود أربع وثلاثون قصيدةً عموديّة نُظمت على الأوزان الخليليّة، التزم فيها النّظام الكلاسيكيّ في الوزن والتّصريع ووحدة الرّويّ والقافية، ومنها أراجيز تختلف قليلًا لتغدو كالموشّحات؛ ولكنّها لا تخرج عن هذه القواعد، كما في قصيدة "وردة الحبّ" و"قل يا أيها القمرُ"، و"يا وردتي الحمراء" وغيرِها.  
وإذا كانت الصّفة المميِّزة للغة الشّعريّة الموزونة هي، وبكلّ وضوح، صورتَها العروضيّة وتشكيلَها بأبيات، فإنّ علاقةً خفيّة بين جانبها الصّوتيّ والإيقاعيّ وجانبها الدّلاليّ تُغنيها بما تنطوي عليه من انفعالات عفويّة صادقةأمّا الإيقاعات الدّاخليّة والنّغميّة الّتي لا تقاس بالتّفعيلات والأوزان فهي في هذه القصائد كثيرة ومختلفة. ومنها تكرار بعض الملفوظات في بيت واحد. كما في قوله: 
فتّحتُ قلبي زهورًا للهوى           والهوى سهوًا لسحرٍ قد هوى 
أو: 
أطرى من الخدّينِ قَولي أنا          يا بُرعمًا أطرى... وأطرى العبَرْ   
أو في توازي وحدات متجانسة مـمّا يشكّل هندسة إيقاعيّة لعوبًا، كما في قصيدة "أنتِ اللها" (ص 29) 
هيمى  هي الحسناءُ يا دَلّها            تلهو بنار العشق من  دَلّها 
ولهى أيا قلبي فلي خَلها            وخلِّف الدّنيا وكنْ  خِلَّها... 
أمّا التّكرار الّذي بدأ به بعض الأبيات فخلق إيقاعًا مختلفًا وفتح أفقًا جديدًا وفكرة مبتَكَرة. قال: 
مثلُكَ الزّهرُ بسحري قد نما      ظَلَّ في زهوٍ، كظنّي ما انحنى 
مثلكَ النّهرُ لبحرٍ ما انثنى        حرّك الوديانَ أو هزَّ السّنى 
مثلُكَ الشّعرُ لكونٍ قد روى      أنّني اللمْحُ. يراعي، طِرْ بِنَا     
فهل يُمسك جوزف مقصود بنواصي هذه الألفاظ ويوجّهها؟ أم هي الألفاظ تقودُه فينسلُّ المعنى منها تلميحًا وتصريحًا؟ 
لا شكّ في أنّه يُسلمُ قيادَه للكلمات تخطر على سجيّتها كما تشاء. فقد تتكرّر أو تتواتر في السّياق متّخذة شكلًا آخر ينتج منه معنًى أبعد. وإحساسُه بهذه الكلمات يجعله يستسلم لها، فتشكّل أنساقًا تعبّر عن إحساسه بتاريخ هذه الكلمات، من دون أن يكون ملزَمًا بماضيها بطريقة اعتباطيّة. هذا إن قلنا إنّ بعض كلماته مألوف وبعضَ صوره كذلك. وإذا كانت الكلمات الّتي ألفناها في الشّعر القديم حاضرةً في شعره، كالشمس والنّجوم والقمر واللمى والزهور والعطور والطبيعة والجمال والحلى وغيرها، فكلّها تدخل في أُطرٍ عاطفيّة ترقى من المحسوس إلى المجرّد المتعالي المتخيَّل. وهي كلمات تختار القالب كما يختاره هو، وتعبّر عنه كلّما عبّر بها. فهو تمكّن بحدسه من رسم حاضر هذه الكلمات ومستقبلها، لأنّ تاريخ الكلمات يتجاوز كلّ وقت وكلّ غاية.   
وإذا كان لكلٍّ منّا أصدقاؤه أو قل صديقاتُه من الكلمات، فإنّ كلماتِ جوزف أمينةٌ لا تخونه؛ بل تنمّ عن سعة شخصيّته الأدبيّة والفكريّة والشّعريّة والشّخصيّة. وعندما يتلاعب بالكلمات تشعر معه أنّك قادر على أن تسخّرها كلَّها لتأتيَ بالمعنى أو لتُظهّر صورة. فهو يطوّع الفعل: "أريشتي اغروربي" "واشرورقي" "عطرًا عبوقًا هذاذيكِ" "فاغدودنت عِبَرُ". ويلصق به ألــــــ التعريف فيقول: 
أنتِ الأنا والأنا روحٌ نمَت بدمي       تغوصُ أرض المجرّاتِ الحكَتْ أثري (أي التي حكت أثري) 
أمّا الأساليب الانفعاليّة، وبخاصّةٍ النّداءُ والاستفهام والتّعجّب، فتندسّ في قصائده معبّرة عن انفعالاته العفويّة الصّادقةولأنّ شعره بمجمله نجوى، فالنّداء أداتها الأولى، وقد لا تخلو منها قصيدةيقول: 
أميرةَ الشّرقِ، والأكوانُ تعشَقُها             عرشُ الجمالِ حواكِ اليوم يا قدَري 
أو كقوله: 
يا وردةً قلبُها فجرٌ يُسوّرُني                  بالذّكريات الّتي حُمِّلتُ في سَفَري 
وكذلك: 
أيا سماءَ الحلى، لَلحُسنُ يَحسَدُهُ،            الشِّعر يعجَزُ، والألفاظُ تعتذرُ  
أو يتأسّى ويتوجّع فيصرخ: 
واعطفَ عينيكِ عليه انتهى              آهِ استمِلْ يُها الصّباحُ المسا 
وطورًا يطرأ جديد غريب أو تعييه ذكرى أو يمضّه صدّ، فيسأل وما من مُجيب: 
مُلهِمي يا حُسنَها، أين الحلَى؟          أو          لِمْ أنا شِلتُ بها فوق السّما؟ 
أو: 
ما بالُها؟! ثغرها الضّحّاك مكتئبٌ                أين الـمُزاح؟ أم يطرَب له البشرُ 
آهٍ ألا ترجع الأيّام بسمتَها                       أو أنّها ذهبت كالحلْم تندثرُ؟ 
إنّ بعض الأساليب في شعر مقصود مفاتيحُ تُظهربراعته في فن إعادة اليقظة الى الكلماتوهي تجربة خاصة أعاد بها  تركيب المألوف منها ليحاكي الفكر والشعور والخيال عند كلّ منعطف، فقراءة شعره تقتضي قراءة هذه المفاتيح التي تساعد في اكتشاف الرّؤى والانتقال من كشف الى كشف، ناهيك بوقع الكلمات وخفّة الإيقاع واتّساع الصّورة إلى المدى الأبعد 
أختم بقولي إنّ هذه القصائد تبرز شعريّةَ جوزف مقصود وثقافته الواسعة وتعمّقه في الشّعر العربيّ ومتانةَ لغته وبراعته في ابتكار الأساليب والإيحاء بصور تحاكي الرّؤى.  
 أهنّئك بهذا العمل الفنّي الرّائع، وأتمنّى لك دوام الإبداع والتّألّق.