السبت، 2 فبراير 2013

ندوة لكتاب د. جوزف عسّاف

عقدت يوم الأربعاء 30/1/2013 في كلية التربية - الفرع الثاني (نيو روضة) ندوة حول كتاب "الكفّ الصغيرة وقصص اخرى" من تأليف الدكتور جوزف عساف. حضر النّدوة مديرة الكليّة الدكتورة تريز الهاشم وعميد كلية الاعلام الأسبق الدكتور جان صقر وأساتذة من كلّيّتي الإعلام والتّرجمة، كما شارك في الندوة رؤساء الأقسام ولفيف من الأساتذة الجامعيّين وحشد من الطلاب. أدارت النّدوة الدكتوره حنان الشّعّار فقدّمت المنتدين ورحّبت بالحضور، وقدّم الدكتور منير المعلوف مطالعته في التقنيّات الّتي استخدمها الدكتور عسّاف في السرد، ثمّ عرض الدكتور أنطوان أبو زيد دراسة لغويّة للكتاب، وتكلّم الدّكتور جوزف عسّاف على الظّروف الّتي رافقت التّأليف وشكر الحاضرين ووقّع الكتاب، وبعدها انتقل الجميع للاحتفال وشرب نخب بالمناسبة وتمنّوا له التّوفيق ودوام العطاء.


كلمة الدكتور منير معلوف
أبدأ مطالعتي بشكر رئيسة وأساتذة قسم اللغات في كلّيّة التّربية – الفرع الثّاني وأرحّب بكم.
عندما قرأت عنوان الكتاب "الكفّ الصّغيرة" وقصصًا أخرى، جال فكري في موضوعات كثيرة وظننت أنّني سأقرأ ما له علاقة بالمساعدة والخلق أو بالبراءة والطّفولة، فإذا هي مشاهد من السّيرة. ولعلّ معظمها من السّيرة الذّاتيّة حيث يستتر الرّاوي وراء ضمير الغائب فيكون خارج الموضوع أي Hétérodiégétique.
لا أريد أن أفسد عليكم متعة التّلذّذ بقراءة الكتاب؛ إنّما أكتفي هنا بالإضاءة على بعض التّقنيّات الّتي استخدمها جوزف عسّاف في السّرد ببراعة لافتة.
تحار في هذه القصص وأنت تحاول أن تتعرّف على شخصيّات الأبطال، هل الرّاوي هو المؤلّف نفسه أم أنّ المؤلّف مُشاهدٌ وناقل للخبر والوقائع فحسب. إلّا أنّك تتعرّف على شخصيّة جوزف مجسّدة ببعض آرائه وتعليقاته وتلميحاته ونجواه ومشاعره، من دون أن تظهر الـــ "أنا". وكأنّه الحياء الإنساني والتّواضع، أو الكبرياء المكبوت يمنعه من الظّهور علانية.
في روايته "أشياء لا تُرى" مكنونات يوحي بها. بصفحتين ونصف يختصر فتوّة البطل أو العامل الفاعل وعلاقته بأبيه. وبخمسة مشاهد حواريّة وسرديّة يختصر مراحل شبابه وعلاقته بفتاة وبصديقه الشّاعر. وينتقل ببراعة إلى مشهد رعايته لابنته نور كأنّه أفاق على صوتها يُلحّ عليه ليصطحبها وأختها إلى الـــ"برغر كينغ" لكي تخرج من جوّ درسها. ويزاوج بين الحوار مع صديقه والاهتمام بنور ويارا ابنتيه اللتين تترعرعان وتكبران بين يديه، فيشعر بسعادة كبيرة تغمر كيانه، ويخشى أن تنتهيَ هذه اللحظات السّعيدة. فيطلب إلى ابنته يارا أن تُنهي الرّواية الّتي ما زال يكتب أحداثها منذ عامين، وتنتهي المشاهد بالطّريقة الفرنسيّة: لا نهاية.
إلّا أنّ بطل كلّ قصّة يختلف عن الآخر. ففي قصّة "فتاة البيانو" مشهد عبثيّ (absurde) يصل إلى حدّ الخواء. عبثيّة الوجود تلاحق البطلة الّتي لم يذكرِ اسمها، بل ذكر أسماءَ خطيبها نادر والطّبيب برنار وعامل المطعم سامر وشخصيّات أخرى ثانويّة.
السّرد في هذه القصّة تميّز برشاقة لافتة. في كلّ عبارة خبر بسيط أو مركّب. ينقطع أحيانًا كثيرة لصالح وصف دقيق ممتع يُظهر الحالة أو الشّخصيّة أو الشّعور أو حدود المكان وإطار الحدث، أو ليخليَ المكان لحوار مقتضَب تُعايش فيه الأحداث، ويمهّد لموقف، وينقلك إلى حدث آخر بسرعة. ثمّ ينتقل الرّاوي بك إلى استرجاع، يستعيد به وبكلمات قليلة، أحداثًا كثيرة من الماضي، فيظهّرها ويشركك في انفعالات البطلة.
ويعود المؤلّف في القصّة الثّالثة إلى عنوان الكتاب "الكفّ الصّغيرة"، فيروي من أخبار طفولة البطل ما تذكّره وبقي عالقًا في ذهنه. غير أنّ زمن القصّة الأساس والطّاغي هو زمن الشّباب، والإطار المكانيّ يتوزّع بين مدينة بيروت والجامعةِ والمستشفى ومنزلِ العائلة في القرية. والأحداثُ تتوالى تارة وتتزامن أخرى وتقفُز طورًا فتُبرز منها الأهمّ والأجلّ. إلاّ أنّ الاسترجاع، أي العودة إلى أحداث سابقة، يلوّن السّرد ويغيّر النّسق، إذ ينقل القارئ من الحاضر إلى الماضي بطرفة عين، وببراعة وحذق لا لِبس فيهما. وكأنّ المشاهد الملوّنة تختفي فجأة لتحُلّ مكانها مشاهدُ بالأبيض والأسود، أو تفاجئك الصّورة ضبابيّةً رماديّة لتُشعرَك بغرابة الماضي وتَباعدِه، من غير أن تمحيَ آثاره في الأحداث.
وصورة البطل "هو" حاضرة في جميع جنبات السّرد، بالإضافة إلى صورة الأمّ الّتي هي محور الحدث، والعامل الموضوع والمتلقّي المستفيد والعامل الفاعل في آن معًا، في كثير من المتتاليات السّرديّة. إلاّ أنّ بعض الشّخصيّات في القصّة، ولعلّها مهمّة في حياته، لم يكشف عنها إلاّ لمامًا، كأخيه الأكبر وأختيه الكبرى والوسطى، فيمكن تصنيفها في السّرد بأنّها ثانويّة. وباختصار، ما يميّز هذه القصّة الّتي حمل الكتاب عنوانها، تقنيًّا، رشاقة السّرد ودقّة الوصف وتوظيف الحوار، وسرعة نقل القارئ من مشهد إلى آخر، وتوجيه انتباهه لأمور وشخصيّات مساعدة أو معاكسة، تُبرز دقّة الأوضاع وحدّة المواقف والحالات المستجدّة. وهذه الكفّ الصّغيرة الّتي حملت البطل وهدهدته طفلاً، وحمته صبيًّا، وحرصت على تنشئته وتعليمه ودعمه بكلّ ما أوتيت من طاقة وقوّة وحنان، إلى أن ترعرع وصار شابًّا، هي هي الّتي واكبته حتّى أصبح أستاذًا جامعيًّا. ولعلّ هذه الكفَّ الصّغيرةَ، كفَّ أمّه، هي الّتي جعلها عنوانًا، تعويضًا من القبلة الحارّة الّتي كانت تطبعها على كفّه، كلّما أمسك بيدها أو مسح وجهها بحنان أو دغدغ شعرها بعرفان.
القصّة الرّابعة: "الزّيارة الأخيرة"، هي قصّة ظهور طيف الأمّ، وهي تصلح لأن تكون نهاية لقصّة "الكفّ الصّغيرة"،  ولا أدري لِمَ قرّر المؤلّف فصلها عنها.
أمّا "المواسم الهاربة" و"عيون الفجر" فهما قصّتان من واقع الحياة، توحيان أكثر ممّا تُخبران، ووراء كلّ عبارة أو حوار يختبئ حدث، وبين المعاني معانٍ أبعد وأخطر. وقد تكون الخيانة / الحلّ، هي الّتي يقبل بها الأبطال مرغمين، وننظر فيها إلى مستوى الموضوع niveau thématique من المنحى الإنسانيّ الصِّرف: لا مهادنة ولا مواربة ولا تورية. إنّه الإنسان أينما حلّ، بطبيعته وطبعه، وضعفه وقلقه الدّائم وحبّه الإبيقوري للحياة، مهما تجرّد أو حاول.
أخيرًا، أعود إلى الجوّ العامّ الّذي يمهر هذه الصّفحات الّتي تروي أحداثًا من واقع الحياة وتصوّر الطّبائع، وتنقل جوًّا اجتماعيًّا متحرّكًا متفاعلاً ينبغي إيفاؤه حقَّه، فإنّ مسحة من الحزن الدّفين تصبغ المشاهد كلّها، ولا تستثني لحظات السّعادة فيها، وارتقاء الكاتب إلى الـــ"هو" لا يمنعه من شعوره بمرارة الفراق ولحظات الحزن، فعندما تقرأ هذا الكتاب، حاذر لأنّك سوف تغصّ في مشهد ما من ألم يشركك الكاتب فيه من دون أن تدري.
ويبقى السّؤال:
لمن يكتب جوزف عسّاف؟ ولماذا يكتب؟ واسمحوا لي بأن أتكهّن من غير أن أضرب في الغيب: إنّها الحاجة إلى هذه الكفّ الرّؤوم، إلى قراءة الماضي وإيفاء هذه الشّخصيّات حقّها. إنّها سلطة الشّعور الإنسانيّ بالانتماء. إنّها عودة إلى ما حدث وصار ومهّد للحاضر، وسيبقى منطبعًا في الآتي، إنّها وِقفة إجلال ووفاء.