الجمعة، 30 أغسطس 2013

مُعجم الرّموز، إغناءً للمكتبة العربيّة





سليمان يوسف إبراهيم
...وتبقى لغة الرّموز انعكاسًا لانفعالات الإنسان، تسكن عميق الذّاكرة، ليتداولها المرء سعيًا لفهم أو لإفهام عفو الخاطر عند كلّ محطّةٍ من محطّات الكتابة لنثرٍ أو لشعرٍ، نقلًا لأساطير أَو لمعتقداتٍ، منذ ما قبل عهد الإنسان بالدّيانات، فاتّصالًا إلى زمن الكتب السّماويّة وآياتها النّيرة... فالرّمزيّة، كمدرسةٍ أدبيّةٍ، هي إعصارٌ ضرب سواحل الكلاسيكيّة في الآداب الغربيّة، وطاولت رياحها شواطئ أدبنا بنثرٍ وشعرٍ، بفعل هبوب التّرجمة والنّقل، وما وصل إلى المثقّقين من أعمال أئمّة وزعماء ذاك التّيار المجدِّد لمفاهيم الآداب، والغاية منها: إن على صعيد التّعبير، أَو من ناحية وسائله والغاية من اعتماد الشّاعر أو الكاتب على إقحام المدلول اللّغوي للمفردات- والّذي يبقى أعمق دلالةً وأشد إيصالًا للمرجو من التّعبير في ذهن المتلقّي- عوض الاعتماد على الدّال المبسّط، لتحميل المفردات غاية فكره وما يصبو إلى إيصاله من إيحاءات للقارئ؛ عن طريق اعتماده التّلميح من دون التّصريح والإيحاء بدلًا من التّلقائيّة والأُسلوب المباشر.

وبالدّخول إلى التوطئة والمقدِّمة الّلتين دبّجهما واضع المعجم، د. منير معلوف، تسهيلًا لنوال القاصد مأربه، من هذا العمل الجليل، الّذي يحمل إلى الباحث والطّالب وكلّ المستزيدين عِلمًا، بعد أن يورد معنى كلمة رمز كما تحدّرت لنا من السّريانيّة والّتي المصدر منها رِمزو بمعنى إشارة، علامة، دلالة. أمّا الفعل رْمَاز، أي: أشارَ، أومأَ، دلَّ، ومن بعدها كما وردت في اللأّتينيّة المتحدّرة من اليونانيّة، بمعنى: ما تجمّع معًا، أو ما كان صورة عن الشّيء. وصولًا إلى تعريف إبن منظور للرّمز في لسان العرب: الرّمز، لغةً، تصويتٌ خفيّ باللّسان كالهمس... وقيل: الرّمز إشارة وإيماءٌ بالعين والحاجبين والشّفتين والفم. والرّمز في اللّغة كلّ ما أشرتُ إليهممّا يُبانُ بلفظٍ بأيّ شيءٍ أشرتَ إليه بيدٍ أَم بعينٍ. كما يذكر د.معلوف كذلك، أنّ قُدامة بن جعفر هو أوّل مَن تحدّث على الرّمز بالمعنى الإصطلاحي، في كتابه نقد النّثر؛ حيث أفرد له تفسيرًا لغويًّا، فقال: هو ما أُخفيَ من الكلام. ونحا به نحوًا تطبيقيًّا فقال عنه: وإنّما يستعمل المتكلِّم الرّمزَ في كلامه في ما يريد طيّه عن كافّة النّاس والإفضاء به إلى بعضهم، فيجعل للكلمة أو الحرف إسمًا من أسماء الطّير أو الوحش أو سائر الأجناس أو حرفًا من حروف المعجم، ويُطلِع على ذلك المَوضِع مَن يريد إفهامه، فيكون ذلك قولًا مفهومًا بينهما مرموزًا عند غيرهما.
كما يعيّن المعلوف بعضًا من أنواع الرّموز بإيجازٍ وبطريقة النّظريّة العلميّة، فيذكر أنّ: الشّعار، المـُعيّن أو الصّفة، الإيقونة، المثل، المثل الخرافي، التّماثل أو التّشابه، الإستعارة والكناية... الّتي لا تعدو بمجملها سوى أشكالٍ تعبيريّةٍ لإِيحاءاتٍ يمكن أن تخدم الرّمز، ووسائل تواصل على مستوى المعرفة والنّشاط الذّهني، وهي تقوم بدور المرآة ولا تتعدّى إطارها التّمثيلي. وأمّا الرّمز الّذي يفترض تجانسًا بين الدّال والمدلول بالمعنى الدِّينامي المنظَّم فيمتاز منها ومن العلامة الّتي تجعل الدّال غريبًا عن المدلول.... ويتابع الكلام على الرّمز حيث يقول: ...لغة الرّموز هذه، توجِد علاقة بين النّاس، فهي كأداة وحيٍ ومعرفةٍ للذّات. ويتابع ليجد أنَّ جُلّ الرّموز يولد من رحم اللّغة على شكل علامات لها دلالات وضعيّة معيّنة، تحيد عنها وتظهر في سياق الكلام. إلاّ أنّ بعض الرّموز ثابت منذ القِدَم، نستحضره فنُحيي شخصياتٍ ووقائع ومُعتقداتٍ وأساطيرَ مخزونةً في لاوعينا الجَماعي، أو ورِثناها من شعوبٍ حاورتنا وحضاراتٍ وثقافاتٍ عرفناها، فاقتبسنا منها ما يُناسبنا، ونسخناه على واقعنا ورؤانا. ولا يُخفى أنّ الرّموز الدينيّة كثيرةٌ جدًّأ، يصعب إحصاؤها وجمعها في مؤلَّفٍ واحد... وفي توثيقها بدقّة، تكمن أهميّة وضع معجم يعود إليه المـُريد ويقصده كلّ طالب علم.
فأهميّة الرّمز تكمن بقدرته الإيحائيّة على تصوير وتظهير المعنى المقصود... فهو استحضارٌ للمعنى وإبرازٌ للنتائج أو الوقائع... وقيمته تعود إلى أنّه أداةً عقليّةً تجمع بوساطة الحَدس صورةً إلى صورةٍ تستدعي حضورها. تتلازم حاجة العودة إلى الجذور والأصول لفهم الـمُرسلة مع ضرورة الإنطلاق من محدوديّة المعاني القاموسيّة للمفردات... فاللّغة تنظيمٌ قائمٌ على التّطوّر، وفي كلّ لحظةٍ إنتاجٌ للماضي وتأسيسٌ لخطابٍ جديد. فالرّموز تحتلّ ركنًا تُجلّله هالةٌ من السّحر والقِدَم، أو تحيي ذكرى مُعتقدٍ فتبعثه حيًّا من ركام الماضي المَنسيّ، وتُسبغ عليه مِسحةً إبداعيّةً تُجسِّد المشاعر والرّؤى، وتعبّر حيث يعجز التّعبير الحقيقي بالإشارات والدّلالات... وتبقى الأديان والميثولوجيّات والحضارات والثّقافات وعادات الشّعوب وتقاليدها، المنابع النّميرة للرّموز وعُمق مدلولاتها...
أمّا عن دواعي وضع د. منير معلوف للمعجم، فأبرزها، افتقار العربيّة لمرجع يجتمع فيه شرح الرّمز إلى مدلولاته، فيسهّل بحث الطّالب كما استزادة العارف؛ ممّا جعله يلزم نفسه بوضع معجم  يخفف من ضنى التّفتيش، عمَّن يبحث عن إبرة في كومة قشّ، فيقيه شرَّ ما وقع فيه! إضافةً إلى تسهيل ربط الصّورة بالدّلالة العائدة لها أمرًا ميسورًا، تجنّب الوقوع في خطأ استعمال بعض الرّموز بسبب إغفالنا لحقيقتها التّاريخيّة. كما يصرّح الدكتور معلوف بتواضع العالِم، بأنّ هذا العمل بالرّغم من جدَّته وجليل الخَدَمَة الّتي يسديها لكلّ باحثٍ يبقى عملًا غير تامّ... لأنّ كلّ ما حولنا- كما نحن- صائر إلى تغييرٍ وتبدّلٍ، نظرًا لِما يُصيب الجميع من تطوّرٍ في الواقع والخطاب.
وتبقى لغة الرّموز إنعكاسٌ لانفعالات الإنسان،عن طريق استعماله لِما يهجع منها في تلافيف الذّاكرة، فيتداول المرء منّا ما يريد من جُعبتها، بقصد الإشارة إلى مضامينها عفو الخاطر مجرّدًا المحسوس بهدف الإرتقاء بالمعنى المقصود.
د. منير معلوف، يا مَن جمعت بيني وبينه منابر التّدريس وهموم المهنة الّتي، بالرّغم من كلّ شيء، تبقى رسالة مع المعلّمين الحقّ، لا بل فلنقل المربيّن الحقّ!