الجمعة، 23 ديسمبر 2011

حيــاتي أنت

John William Waterhouse's The Lady of Shalott, 1888 (Tate Gallery, London)



عندما تُبحرُ الأفكارُ مع شراع النّسيانْ

وتُطبق أيادي الظّلام على عيون الأشياءْ
تغفو قلوب العذارى. والسّماء ،
قبّعة سـاحرةٍ، تتغامز فيها النّجومُ
تتلوّى بحياءْ ...

عندما يُفتح كتابُ السّرابِ ويضمحلُّ الزّمنْ
ويموت الضّوء في سراديب الظّلام كمنْ
انتشت عينُهُ. والتهبت أحاسيسه وركنْ،
عندها تشربني سعادة الذّكرى
وأحيا ثانيةً وتُزهر البشرى
لحظتي الكبرى، حبيبي
أحيا فيكَ
أُناديك
ينقشع الظّـلامُ
تتفتّح الأحلامُ
وتُزهر العمرا.

الخميس، 3 نوفمبر 2011

لون



من أوتار قلبي لونٌ
من نسيج عيوني
من كلّ نقطة من دمي
من خفق جفوني
لونُ حبيبي
يا لونَ حياتي وعطرها، ويا دمع السّكونِ
حبكتك على صدري بلحم قلبي
ربطتك بضلوعي، بوريدي،
سمّرتك بقطرات دمعي
بوهج الأنينِ
بخيوط نهاري
بأعمار السّنين
فغُص في مُهجتي وكياني وشَعري
يا لونَ حبيبي.

الاثنين، 8 أغسطس 2011

مقارنـة بين أوديب ملكًا وقدموس


Oedipus at Colonus by Fulchran-Jean Harriet
Cadmus Sowing the Dragon's teeth, by Maxfield Parrish, 1908.



مقارنـة
بين
أوديب ملكًا وقدموس





مقدّمــة
         ألهمت الأساطير اليونانيّة عقول النّاس منذ أقدم العصور، فكان تأثيرها عظيمًا في المسرح والشعر والفلسفة والرّياضة والموسيقى والرسم والنّحت، حتّى في السّياسة والخطابة والدّين والقانون والأنظمة وعلم الاجتماع. وقد عرف الغرب عظَمة وغِنى الثّقافة الإغريقيّة، فانكبّ أدباؤه على دراسة روائعها، ونهَلوا من مَعينها، فباتت دراسة اللغة اليونانيّة إلزاميّةً في أوروبا لكلّ من أراد تحصيلاً علميًا في مختلف المجالات. "والثقافة اليونانيّة متأثّرة، أصلاً، بالحضارات الشّرقيّة القديمة المجاورة في فينيقية وبابل ومصر، فقد نقل اليونان نتائج الفكر الشّرقيّ من المجال العقلانيّ، وأزجَوا إلى العالم فلسفةً وعلومًا"[1]. وقد عرف العرب أنّ حاجتهم إلى الفلسفة الإغريقيّة تفُوق حاجتَهم إلى غيرها من العلوم فاستقَوا منها، ونقلوا الكثير من نظريّات أرسطو وأفلاطون وغيرهم، وأفاد فلاسفة العرب ومتصوّفوهم من هذا المَعين، ووردوا علم المنطق والجدل فاغترفوا منه وأغنَوا مبادئهم، وركّزوا فقههم على أسسه.
         ولكنّ العرب قصّروا عن التّعرّفِ فنَّ المسرح والملحمة عند الإغريق. ولربّما كان اهتمامهم بالفنون يقتصر على ما كان منها عربيّ المنبع والجذور، أو ما كان يلائم طبائعهم، ويتوافق وعاداتِهم، ويُرضي غرورَهم المترفّعَ عن التّظاهر والتّخيّل؛ أو لأنّهم ملتصقون بالبيئة الدّينيّة ومنشغلون بحاجاتهم الأساسيّة وبالفتوحات، وبنشر مبادئ دينهم، ولاعتدادهم بلغتهم وبتفوّقهم؛ فضلاً عن أنّ البدويّ لم يكن ميّالاً بفطرته إلى الدّروس الأخلاقيّة والتّحليلات النّفسيّة الدّقيقة. ويمكن أن تكون هذه الأسباب مجتمعة وغيرها وراء خلوّ الأدب العربيّ القديم من التّمثيل. ولكنّ النّقّاد أجمعوا على حقيقة ثابتة، وهي أنّ العرب لو قُدِّر لهم أن يتعرّفوا الفنون المسرحيّة والرّوائيّة والملحميّة الإغريقيّة لاغتنت ثقافتهم، وزاد علمهم، وتوسّع فكرهم، ولربّما تغيّر الكثير من عاداتهم، لأنّ باب المعرفة فكرةٌ، مَن أحجم عنها فقدَ المفتاح وبقي خارجًا…
      وإذا كان المسرح الإغريقيّ انعكاسًا لمعتقدات وتطلّعات ورؤى شعب موغلٍ في الإيمان بالأساطير والخرافات، مطبوعٍ على القبول بما تُلزمه به الآلهة ويهيّئه له القدَر، فإنّ الحياة في هذا الجوّ العابق بروح المغامرات الميثولوجية، وتدخّلَ الآلهة في شؤون الإنسان تدخّلاً مباشرًا قد جعل المسرح الإغريقيّ أشبه بطقس من الطقوس والشّعائر الدينيّة، لما يخالجه من تسابيحَ وتضرّعاتٍ وابتهالاتٍ قد تُرضي الآلهة لتغيّر القدَر المحتوم.  
        أمّا عند العرب فقد ظلّت الحال على ما كانت عليه من إهمال للفنّ التّمثيليّ حتّى منتصف القرن التّاسع عشر، عندما قدّم مارون النّقاش (1817 – 1855) في منْزله في بيروت رواية "البخيل" سنة 1848 بعدما جمع نُخبة من أصدقائه وعلّمهم التّمثيل. وكانت تلك بداية عصر جديد، إذ شكّل عمل مارون النّقّاش حافزًا للمضيّ في فنّ التّمثيل، فتتالت المحاولات، وتكوّنت فرق تمثيل، وأُلّفت مسرحيّات كان لها الأثر الحسن.
       وما يجدر ذكره أنّ الفنّ المسرحيّ "دخل إلينا في ما دخل من ألوان الثّقافة الغربيّة، حينما أخذت بصائرنا تتفتّح على أوروبة وتنتحل من فنونها وآدابها، بحكم ذلك الاتّصال الاجتماعيّ والثّقافيّ الذي ازداد توثّقًا منذ أوائل القرن الماضي" (القرن التّاسع عشر)[2].
          وقد اشتُهر في تأليف المسرحيّات الشّعريّة الشّيخ خليل اليازجي في روايته (المروءة والوفاء)، والشيخ نجيب الحدّاد، وأحمد شوقي، ولاسيّما سعيد عقل الذي أتحف الأدب العربيّ "ببنت يفتاح"، وخصوصًا "بقدموس" التي قال عنها فؤاد افرام البستاني:
     "وَلَدَت عبقريّة الشّاعر سعيد عقل في المسرح قطعةً لا يخجل الفنّ بأن ينعتها بالمأساة الحقّ، وأخرجت في الشّعر العربيّ رائعةً طالما تاق إلى مثلها، ودوّنت في الوطنيّة اللبنانيّة وثيقة لها ما بعدها... قدموس مأساة، فلها من المأساة جلال القِدَم، وكمال التّعبير، ووحدات الفنّ المدرسيّ... وخلاصة البحث أنّ الفنّ المسرحيّ يعود من قدموس بمأساة أصيلة، ويعود الشّعر العربيّ برائعة من أجمل روائعه".      
         ولكن أين منبع هذه الرّائعة؟ ومن أين استلهم سعيد عقل موضوعها؟ وبمن تأثّر؟ وما هي أوجه التّقارب والاختلاف بينها وبين رائعة صوفوكليس أوديب ملكًا؟ أسئلة تشكّل مدخلاً إلى دراسة جدّيّة تتناول الموضوع، والشّكل، والمشاهد، والفصول، والبيئة، والإطار المكانيّ والزّمانيّ، والممثّلين، واللغة، والشّعر، وأساليب الكلام من حوار ومناجاة وصلوات ومتتاليات سرديّة وكورس، وكلّ ما يمكن أن يسهم في المقارنة لاكتشاف مواضع التّقارب والاختلاف بين الرّوايتين.
             في القسم الأوّل من هذا البحث نسلّط الضّوء على موضوع كلٍّ من المأساتَين، وظروف تأليفهما التاريخيّة والثقافيّة والاجتماعيّة، ونذكر نبذةً سريعة عن حياة كلٍّ من سعيد عقل وصوفوكليس، وذلك لإظهار وجوه التّقارب ووجوه الاختلاف. ثمّ نعمد في القسم الثّاني إلى إجراء مقارنة بين المأساتَين، متناولين بالعرض والتّحليل الشّخصيّات والخورص والمكان والأقسام في كلٍّ منهما. وفي القسم الثّالث نتناول البرولوغوس في أوديب ملكًا، والفصل الأوّل في قدموس، فنحلّل المواقف انطلاقًا من التّحليل العامليّ والتّرسيمة العوامليّة.   
       نبدأ بحثنا هذا، ونحن واثقون أنّ الإحاطة بجميع جوانب القضايا التي يمكن أن تتناولها دراسة مقارِنة شاملة لهذا النّوع من الرّوائع أمر صعب، وأنّ الطريق شائك، وإنْ شكّل البحث الألسنيّ عاملاً إيجابيًّا مساعدًا؛ ولئن كان الغوص في هذا الأمر الخطير يفتح أمام الباحث آفاقًا جديدة ، فإنّه قد يُدخله سراديبَ ومتاهاتٍ غريبةً، حيث يُضطرّ إلى تلمّس طريقه ليخرج إلى فضاء المعرفة ولذّة الاكتشاف، على حدّ ما جاء في إحدى المحاضرتين اللتين ألقاهما في بيروت أحد علماء الألسنيّة، جورج مونان: "إنّ الباحث يدخل البحث الألسنيّ كأنّه داخل غابة دغلة، ما من إشارة ولا لافتة تساعده في شقّ طريقه فيها. فيسير على غير هدى، حتّى ينتهي،
إمّا في باحة مشرقة تتفرّع منها الجادّات، وإمّا إلى طريق مسدود"[3].
         إنّ الهدف الأساس من هذا البحث هو تذوّق النّتاج الأدبيّ، وإبراز مواطن الجمال فيه، لأن الدّراسة الموضوعيّة تقضي بالانفتاح والمقارنة، لمعرفة مكانة الأثر الأدبيّ الوطنيّ بين الآداب العالميّة؛ وأمّا الانطواء على الذّات واجترار الأدب القوميّ فهو موت وانحلال. ونحن إذ نَعرِض لهذه المقارنة من وجهة نظر موضوعيّة محايدة، نتوخّى التعمّق العلميّ الصّحيح، الذي يساهم في توسيع إطار المعلومات وشموليّتها، فتتلاقى الثّقافات والحضارات، وهذا هو الهدف الرّئيس الذي يسعى إليه المنهج المقارن في الأدب.
 


[1] . وليم الخازن، الحضارة العبّاسيّة، ط 2، ص 103.
[2] . أنيس المقدسي، الفنون الأدبيّة وأعلامها ، ص 536، 537.

[3] . جريدة النّهار 21/ 3/ 1975 


الأربعاء، 20 يوليو 2011

العلاقة بين الأدب العربيّ والأدب اليونانيّ


A mediaeval Arab depiction of Aristotle teaching astronomy to other Greek scholars 

     
 مقدّمة
          إذا نظرنا إلى الحضارة الإنسانيّة بمفهومها الشّامل نجد أنّه لم تقُم إلى الآن، في الشّرق والغرب والشّمال والجنوب، سوى "مدنيّةٍ إنسانيّة واحدةٍ كبرى"، جمعت ثقافات النّاس وحضاراتهم على مرّ العصور. ذلك أنّ التّأثّر والتّأثير والاقتباس تبادلٌ بين الأمم، والأنظمة الاجتماعيّة والسّياسيّة أبدًا في تفاعل، وهذا من بواعث التّجدّد في العلوم والأفكار والآداب والفنون التي تعكس التّطوّر الإنسانيّ.
لقد حظيت الحضارة اليونانيّة باهنمام الشّعوب المُجاورة منذ أقدم العصور، وكان تأثيرها عظيمًا في ميادين مُختلفة. وإذا كانت فتوحات الإسكندر في القرن الرّابع قبل الميلاد قد أتاحت للعرب أوّل اتّصال بالثّقافة اليونانيّة، غير أنّ أثر هذا التّلاقي لم يظهر إلاّ خلال النّهضة العبّاسيّة، وبخاصّة في عهد المأمون، إذ راح مُترجمون رهبان في الرّها وجُنديسابور وحرّان وغيرها ينقلون العديد من مؤلّفات اليونان، عبر ترجمة إلى السّريانيّة ثمّ إلى العربيّة. و"الثقافة اليونانيّة متأثّرة، أصلاً، بالحضارات الشّرقيّة القديمة المجاورة، في فينيقية وبابل ومصر، وقد نقل اليونان نتائج الفكر الشّرقيّ من المجال العقلانيّ، وأزجوا إلى العالم فلسفةً وعلومًا" كما قال د. وليم الخازن في كتابه الحضارة العبّاسيّة. أمّا الغرب، فعندما عرف عظَمة الثّقافة الإغريقيّة وغِناها (بخاصّة بعد سقوط القسطنطينيّة)، انكبُّ باحثوه على دراسة روائعها، وغرفوا من مَعينها، وباتت دراسة اللغة اليونانيّة إلزاميّةً في أوروبا لكلّ من أراد تحصيلاً علميًّا في مختلف المجالات.
لقد تأثّر العرب قديمًا بالثّقافة اليونانيّة كما تأثّروا بسائر الثّقافات الّتي خالطوها، كالفارسيّة والهنديّة والإسبانيّة والحبشيّة والقبطيّة وغيرها. وسنحاول أن نلقي الضّوء على المجالات الّتي حصل فيها هذا التّفاعل بين اليونان والعرب في العصور العبّاسيّة، بخاصّة في الأدب والشّعر والحكمة والفلسفة، عالمين أنّ ميادين أخرى أيضًا كان لها الأثر البليغ في ثقافة العرب، كالرّياضيّات والميثولوجيا والمسرح والفنون والقانون وعلم الاجتماع وغيرها.
إنّ انفتاح سبل التّواصل أدّى إلى تفاعلٍ وتراسلٍ سهل وسريع بين جميع حضارات العالم. وهذا ما يسهّل أمور المقارنة الأدبيّة من جهة، ولكنّه قد يُدخلها لاحقًا في متاهات كبيرة لتعدّد الموضوعات وتداخلها. تبقى الإشارة إلى أنّ  هذا التّفاعل الّذي ندرسه في الأدب هو المأرب الأساس الذي نتوخّاه من علم المقارنة الأدبيّة، لأنّه يعرّف الشعوب بعضَها إلى بعض، وينشر الثقافة ويعمّم المعرفة ويقرّب الأذواق.

 (469 BC–399 BC) سقراط


1. في الأدب والشّعر
          اللغة اليونانيّة صنو اللغة العربيّة في حروف المدّ، كما أنّ البسلتيكا (الموسيقى اليونانيّة) أقرب أنواع الموسيقى إلى العرب[1]. وإذا كان الفارابي قد ذكر أنّ اليونان خصّصوا لكلّ غرض شعريّ وزنًا مُستقلاًّ كما فعل العرب، فإنّه عدّ من أنواع الشّعر اليونانيّ ثلاثة عشر نوعًا. وظهر أثر الإغريق واضحًا في الأدب العبّاسيّ في مجالات مُختلفة. فكثرٌ هم الشّعراء والأدباء الّذين عرفوا الثّقافة اليونانيّة وتحدّثوا عن رموزها. وكثيرًا ما نقع في شعر أبي العتاهية والمتنبّي وابن الرّومي وغيرهم على آراء حكميّة وفلسفيّة تذكّر بأقوال الفلاسفة اليونان أو بقادتهم وآلهتهم ورموزهم. 
استحضر المتنبّي طيف الإسكندر المقدونيّ ذي القرنَين عندما يمدح محمّد بن زُرَيق الطّرسوسيّ قائلاً:
          ملكٌ إذا عـادَيتَ  نفسَك عـادهِ             ورضيتَ  أوحشَ ما كرِهتَ أنيسـا
   [...] لو كان ذو القرنين أعمـل رأيـهُ             لمّا أتى الظّلمـاتِ صِرنَ  شُموسـا

         وقال الجاحظ: "قال خطيب من الخطباء، حين قام على سرير الإسكندر وهو ميت: "الإسكندر كان أمس أنطق منه اليوم، ولكنّه اليوم أوعظ منه أمس". ومقابل "كتاب الحيوان" لأرسطو، كان "كتاب الحيوان" للجاحظ. وفيه يورد بعض ما قاله أرسطو ويردّ عليه بالمنطق منطلقًا من الشّك العلميّ.

        وهجا ابن الرّومي صاعدًا وابنه أبا عيسى، وممّا قاله:
               وثـنى بابنـه السّفيـهِ المُعنّى             بأسـاطير  أرسطاطـاليسِ
               والّذي لم يصُـخْ بأذنيـهِ إلاّ          نحو ذوثوريسَ أو  واليـسِ
               عاقدًا طرْفَهُ بـيهرامَ أو كيوانَ        أو هرمس أو البـرجيسِ
               أو بشمس النّهار والبدرِ والزّهــــرةِ عند التّثليثِ والتّقديسِ
               واجتمـاعـاتهنّ في كلّ قيدٍ          وافتراقـاتهنّ  عن كلّ  قيسِ

           فهو، على حدّ ما قاله العقّاد، "في الأبيات الأخيرة يذكر الفلاسفة والرّياضيّين بأسمائهم المعروفة في الكتب المنقولة، ويذكر أكثر الكواكب بأسمائها الفارسيّة، ويذكرها في غير هذه الأبيات بأسمائها المعروفة عند الكلدانيّين والفرس الأقدمين، ونقلها منهم اليونان، ولا تزال مشهورة إلى اليوم في آداب الغربيّين، فيقول في مدح إسماعيل بن بلبل، وكان كاتبًا قائدًا:

                 وافى عطـاردُ والمرّيخُ مولـدَه         فأعطياه من الحظّين ما اقترحا


      لأنّ عطـارد كان ربّ الكتابة والحكمة والفنون عندهم، والمرّيخ كان ربّ الحرب والشّجاعة.
       ويقول في مدح عبيد الله بن سليمان بن وهب:
                    إذا صَبـَت زهرتُـهُ صبوةً          قال له هرمسِهُ : هندسي
                    وإن عدا هرمسُـه حـدّه          قالت له زهرتـُه : نفّسي

         والزّهرة هي ربّة الجمال واللهو، وهرمس هو اسم عطارد عند الفرس، وهو ربّ الكتابـة والحكمة كما تقدّم، يعني أنّ ممدوحه يميل مع اللهو والجمال فتهيب به الحكمة والمعرفة، ويرهق نفسه بهذه فتدعوه الزّهرة إلى التّنفيس".
      ويستحضر أبو العلاء المعرّي رموزًا إغريقيّة للعلم والمعرفة، فيقول:
                 أيجلو الشّمسَ للرّائي نهـارٌ                وقد شرقت ومشرقها مُضِبُّ
                ولم يدفع ردى سقراطَ لفظٌ                ولا بقراط حامى عنه  الطّبُّ

قال المعتمد بن عباد ممازحًا ابنه الرّاضي، فقال:
                      أولست رسطاليسَ  إنْ             ذُكِر الفلاسفــةُ  الأكابرْ   
                [...] مَنْ هُرمُسٌ مَن سيبويـ            ـهِ مَنِ ابنُ فوركَ إذ تُناظِرْ

              فهرمس هو ابن زوس ومايا ابنةِ أطلس في الميثولوجيا اليونانيّة، يقود الظّلال نحو هادس إله الموتى وسيّد المملكة السّفليّة في الجحيم، ويحمي المسافرين ويجلب الحظّ، وهو سيّد اللصوص والتّجّار.

2. في الفلسفة والحكمة


بن باجة ... الطبيب والفيلسوف قتل مسموما عام 1138م

عرف العرب أنّ حاجتهم إلى الفلسفة الإغريقيّة تفُوق حاجتَهم إلى غيرها من العلوم، فاستقَوا منها، ونقلوا الكثير من نظريّات أرسطو وأفلاطون وغيرهما، وأفاد فلاسفة العرب ومتصوّفوهم من هذا المَعين، ووردوا علم المنطق والجدل فاغترفوا منه وأغنَوا مبادئهم، وركّزوا فقههم على أسسه. وفلسفة العرب ليست، في الأساس، إلاّ فلسفة يونانيّة متأثّرة بنظريّات الشّعوب الّتي غلبوها، وقد وُضعت بشكلٍ يوافق العقليّة الإسلاميّة. والميدان الفكريّ الّذي ظهرت فيه آراؤهم كان وسطًا بين الفلسفة وعلوم الدين.
          كان الكنديّ أوّل من حاول التّوفيق بين الفلسفة والدّين. وهذه العمليّة تابعها الفارابي، وشرح منطق أرسطو وتوسّع في التّأليف الفلسفيّ، فوضع كتابه "الجمع بين رأيي الحكيمين أفلاطون وأرسطو". ويُعدّ كتابه "آراء المدينة الفاضلة" خلاصة تفكيره، ويظهر فيه مدى تأثّره بما جاء في "المدينة الفاضلة" لأفلاطون.      
           
خاتمة
لمَ لم يحصل تأثير وتأثّر بين الأتراك أو الرّومان والعرب بقدر ما حصل مع اليونان؟ علمًا بأنّ الرّوم بقوا في الشّرق منذ القرن الأوّل قبل الميلاد حتّى الفتح الإسلاميّ. وبعد ذلك بقي التّماس بين العرب والرّوم في معارك وحدود وأسرى وعبيد وتبادل هدايا وعلاقات طبيعيّة تارة وطورًا مأزومة. ومع العلم بأن للرّوم ثقافةً عريقة وعندهم فلاسفة وشعراء كفرجيل وخطباء كشيشرون وغيرهما. عندما اندحر الإغريق وعادوا إلى بلادهم لم يجد العرب حرجًا في اقتباس علومهم والتّعرّف إلى أدبهم وفنّهم وحضارتهم. وكان الإنجيل قد كتب بالآراميّة واليونانيّة. وحصل تأثير دينيّ وفقهيّ طاول المجتمع بأسره. ولم تكن اللغة اليونانيّة بغريبة عن العرب، لأنّ الإغريق سيطروا على المنطقة زهاء ثلاثمئة عام. لقد أحبّ العرب الشّعب اليونانيّ وكانت العادات متقاربة لقرب المسافة بين المنطقتين وكان اختلاط بعض الأسر. ولا يغيب عن بالنا ما بقي من أسماء يونانيّة الأصل كطرابلس وحلب وهليوبوليس. ولكنّ السّؤال الأهم: لمَ تُرجمت أفكار أرسطو وأفلاطون وتأثّروا بهما ولم يتأثّروا بسقراط بالمقدار عينه؟ ولمَ لم يتأثّروا كثيرًا بصوفوكليس وهوميروس؟ لا شكّ في أنّ عنجهيّة العربيّ تأبى عليه رواقيّة سقراط وقبوله الانتحار رفضًا للظّلم. ولعل اهتمامهم بالفنون كان يقتصر على ما كان منها عربيّ المنبع والجذور، أو ما كان يلائم طبائعهم، ويتوافق وعاداتِهم، ويُرضي غرورَهم المترفّعَ عن التّظاهر والتّخيّل؛ أو لأنّهم ملتصقون بالبيئة الدّينيّة ومنشغلون بحاجاتهم الأساسيّة وبالفتوحات، وبنشر مبادئ دينهم، ولاعتدادهم بلغتهم وبتفوّقهم؛ فضلاً عن أنّ البدويّ لم يكن ميّالاً بفطرته إلى الدّروس الأخلاقيّة والتّحليلات النّفسيّة الدّقيقة. ويمكن أن تكون هذه الأسباب مجتمعة وغيرها وراء خلوّ الأدب العربيّ القديم من التّمثيل. ولكنّ النّقّاد أجمعوا على حقيقة ثابتة، وهي أنّ العرب لو قُدِّر لهم أن يتعرّفوا الفنون المسرحيّة والرّوائيّة والملحميّة الإغريقيّة لاغتنت ثقافتهم، وزاد علمهم، وتوسّع فكرهم، ولربّما تغيّر الكثير من عاداتهم، لأنّ باب المعرفة فكرةٌ، مَن أحجم عنها فقدَ المفتاح وبقي خارج ملكوتها.

  


[1] . كان يوحنّا الدّمشقيّ، أسقف دمشق، من روّاد الموسيقى البيزنطيّة اليونانيّة في القرن الثّامن الميلاديّ، وكانت التّرانيم والصّلوات في جزء كبير من العالم العربيّ شرقًا تُتلى باللغة اليونانيّة، وعندما عُرّبت احتفظوا بالنّغم اليونانيّ الأصليّ.  

الأربعاء، 29 يونيو 2011

صنّين


Sannine 


لَمَعان وجهك يا صنّينْ
وهذا الذّهب المسكوب على ثلجك
ودرعك الصّلبة التي عفّ عنها الدّهرْ
تُخفي قلبًا طاهرًا يحمل عبء السّنينْ،
يحمل آمالاً عظامًا.
فدم الوفاء على الصّخورْ
خطّ أحمرُ للمعتدينْ !
والنّهر على أقدامك يهدرُ
كأنه قضقضة عظام المندحرينْ
يطحن الجشع والظّلمَ
ولا يلينْ !


الأحد، 1 مايو 2011

أحلام ولدي

Photo by Annes Gedes



ما زِلت نائمًا يا ولدي

ويداك مغلقتان عن الأذى
قلبك ما زال نقيًّا، حلمك ندي
جفونك تحضن الطّفولة والحنانْ
سمات البراءة على شفاهك 
والجنان
لم يمسّه عذابْ
ما زلت يا ولدي غضّ الإهابْ
فنم ولا تكترث للدّنيا
فهي تُرابْ
ولا تعبأ بما تُخبئه الأيّـامْ
فكلّها للفناء... كلّها أحلامْ
دعها ونَمْ

وعلى الدّنيا السّلامْ...

الأحد، 24 أبريل 2011

بين الواقع والعـدم


1913 Kasimir Malevich 

أمس جلستُ قرب عالم البحرِ،
ونفضت عنّي غبار الوجودْ،
ذرّةٌ منه أنا،
على موجة حرّة من موج الخلودْ
تحرّرت من ذاتي حين عرفت ذاتي،
من وجودي ومن حياتي،
للحظةٍ لم أُلامسِ الأديم، للحظةٍ،
للحظةٍ فقدت حسّي وصرت في العدمْ
للحظةٍ نسيت الحبّ والبُغضَ والألمْ
ورحلت إرادتي عن قَيدها، جَسدي،
عانقَت  ضمير الأبدِ
وانعتقت من أسرها نفسي
وحســر الكون عن الكمالِ
عرفت أُمنية الأجيالِ ...
خاطرةٌ حملتني إلى البعيدِ البعيدْ
وسحرتني أغنيةُ المحال







السبت، 23 أبريل 2011

الجبال والرّمال

كفرتيه - جبل لبنان


رمال الصّحـاري
 في الجنـائن، في الجبالْ
 في الشّوارعِ، في الأحيـاءِ
 كُثبان الرّمالْ
 على التّلالْ
 على الزّهورِ، على الأسرّةِ،
 على الموائدِ، داء عُضالْ...
 تُمطر الدّنيا، فتُوحلُ الأرضُ
 وتجري السّيولُ، فتجرفُ الأوحالْ ...
 ويعودُ الجمالْ.
 مناخ الجبالِ لا يصحّ للرّمال.