الخميس، 22 نوفمبر 2012

بالعلم يرقى وبالجهد يبقى

Photo by By LLP




من حِمى جبل صنّين الأغرّ الّذي شابت ناصيتُه وشاب الدّهر عليه،
من ظلال الأرز الخالد أرفع أسمى آيات التّقدير والشّكر والوفاء لدماء أبطالنا الّتي سالت دفاعًا عنّا وذودًا عن هذا التّراب المقدّس.
ليُسمحْ لي بألّا أسمّي هذه المناسبةَ عيدًا، بل ذكرى،
لأنّ الاستقلال عن غيرنا من الطّامعين تمّ بعد عذاب ولأيٍ ومذلّة.
كثيرة هي الشّعوب القريبة والبعيدة الّتي وطئت جيوشها أرضنا على مرّ التّاريخ، فأحلّت أعراضنا وانتهكت حرماتنا ودنّست ترابنا. فالمناسبة عزيزة، والذّكرى مرّة.
أليس من الأصوب أن نحتفل بالعيد الوطنيّ اللبنانيّ كما تفعل جميع الدّول في العالم؟
حريّ بنا أن نُعلي شأن لبنان؛ لا أن نُنكره ثلاث مرّات ونشتمه قبل بزوغ الفجر.
حريّ بنا أن نكرّم الإنسان في لبنان؛ لا أن ندفع به إلى البحث عن وطن بديل.
حريّ بنا أن نعظّم جيش لبنان؛ لا أن نجيّش الأقزام في خدمة دول أخرى.
حريّ بنا أن نكرّم أدباءنا ومثقّفينا ومبدعينا؛ لا أن نسلّط عليهم الدّهاة والأثرياء.
حريّ بنا أن نحترم إرادة العيش في بلادنا؛ لا أن نغلّب إرادة الموت والانتحار والشّهادة مهما كانت الأسباب.
حريّ بنا أن نفتح طرقات جديدة ونسّهل التّواصل؛ لا أن نقفل طرقنا بالإطارات المشتعلة.
كثيرة هي الخطايا الّتي نرتكبها باسم الوطنيّة وبحقّ لبنان.
فلا الطّائفة هي الوطن،
ولا الزّعيم هو الوطن،
ولا الأحزاب والتّيّارات والطّوائف ولا مثل ذلك.
الوطنيّة عصبيّة.
الوطنيّة التزام بالقانون، لا تحايل عليه.
الوطنيّة ترفّع عن الذّاتيّة والأنا الصّغيرة.
الوطنيّة قبول بتاريخ لبنان كما هو من غير تشويهٍ ولا تعمية.
والوطنيّة ضمان مستقبل لبنان الّذي نَنشده لأجيالنا حرًّا أبيًّا منيعًا، فنستطيع أن نُنشد بفخر:

مواكبُ مجدٍ ورمزُ الهُدى
منارةُ علم، شعاعٌ بدا
إلى المجد سرنا وفي القلب توقٌ
ولبنانُ يبقى لنا سيّدا

إذا ما دعانا إليه نداءٌ
نُلبّي النّداءَ ونُعلي الهممْ
فوعدًا قطعْنا وعهدَ إباءٍ
وفاءً له للعلى للعلَمْ

بني الأرز هـبّوا فلبنانُ حرٌّ
شبابٌ طَموح مُنى وعملْ
فبالعلم يرقى وبالجهد يبقى
ويعلو الجبينُ ويحلو الأملْ


الجمعة، 9 نوفمبر 2012

إلى الوراء، في نقد اتّجاهات التّقدّم

حبيب معلوف يوقّع كتابه



"إلى الوراء، في نقد اتّجاهات التّقدّم" كتاب من 359 صفحة لحبيب معلوف صدر عن دار الفارابي في بيروت عام 2010، يطرح فيه قضايا وجوديّة تمّ التّوافق على تسميتها بـ"البيئيّة". ويتطرّق الكاتب فيه إلى أسس أخلاقيّات جديدة فرضت المشكلات الجديدة للبشريّة طرحَهَا، مثل تغيّر المناخ العالميّ وانقراض الأنواع وتهديد التّنوّع البيولوجيّ وانتشار الأوبئة الجديدة المعولمة... بالإضافة إلى المشكلات المزمنة من سوء التّفاهم وغياب العدالة وتزايد التّسلّط والحروب والعنف والتّطرّف والجرائم...
 كما يتضمّن الكتاب محاولة لإعادة الاعتبار إلى فلسفة العلم، ومراجعة ما تطرحه الاكتشافات الحديثة الّتي تتطلّب أخلاقيّات جديدة أيضًا، فرضت وجودها في إطار التّطوّر العلميّ، من النّانوتكنولوجيا إلى الهندسة الجينيّة إلى التّكنولوجيا الحيويّة الّتي تلاعبت بالكائن الحيّ وهدّدت أسس الحياة بدلاً من أن تدعمها. ولا سيّما بعدما تراجعت أدوار الدّول في دعم البحث العلميّ من أجل الصّالح العامّ، لصالح الشّركات الكبرى الخاصّة. ونجد في الكتاب أيضًا بحثًا مختصرًا في الأصول والجذور والثّقافات الدّينيّة الشّعبيّة، وقد أدرج الكاتب هذا البحث معلّلاً أنّه للمقارنة وأخذ العِبر. كذلك أدرج ما سمّاه "محاولات" لرصد أصل العنف وأصل فكرة البحث عن الأصل. ويرصد الكتاب ما يسمّيه "بصمتنا الإيكولوجيّة" على هذا الكوكب الصّغير الهشّ، فيطرح حجمها وإشكاليّتها وطرق مراعاتها لتحقيق العدالة البيئيّة.
انطلاقًا من الهمّ البيئيّ الّذي يحمله كرئيس لحزب البيئة اللبنانيّ وكصحافيّ بارز في هذا المجال، يضيء حبيب معلوف في كتابه هذا "إلى الوراء. في نقد اتّجاهات التّقدّم" على علم الايكولوجيا، من دراسة الأشخاص ومسلكهم في الحياة، إلى دراسة الديموغرافيا السّكّانية والأنظمة البيئيّة المستقرّة وغير المستقرة، وجميع الأوساط والنّطاقات الحيويّة التي تشغلها وتعيش فيها الكائنات الحيّة، وصولاً إلى دراسة أحوال البيئة والتّغيّرات التي تطرأ عليها. علمًا أن هذا الكتاب هو الثّاني في ما يعتبره فلسفة بيئيّة، بعد كتابه الأول "على الحافة: مدخل إلى الفلسفة البيئية".
قد لا ننتبه في معظم الأحيان إلى مدى ارتباط قضيّة البيئة بالقضايا الأخرى التي نتصارع عليها يوميًّا ونعتبرها أكثر أهمية، إلاّ أن معلوف في كتابه هذا يربط بين قضية البيئة والمفاهيم الأخرى بشكل كبير، فنجد فيه أن قضية البيئة لا تبتعد عن الدّيمقراطية مثلاً، أو مفهوم الدولة أو المواطنيّة، أو العولمة... حتى إنّها لا تقلّ عنها أهمّيّة. فالكتاب إذ يرصد "بصمتنا الايكولوجية" على هذا الكوكب الصّغير، يطرح حجمها وإشكاليّاتها وطرق مراعاتها لتحقيق العدالة البيئيّة.
أراد معلوف من كتابه هذا أن يكون دعوة إلى إعادة الاعتبار لمبادئ وقيم استُبدلت بالاستهلاك الماديّ وحبّ التملّك في عصر العولمة والتّكنولوجيا، والتّفكير أكثر في المستقبل و"الما بعد"، لأنّها الطّريقة الفضلى للتّقليل من الأزمات الاجتماعيّة والاقتصاديّة وتعميم قيم السّلام واللاعنف، بدلاً من حب السيطرة والتّنافس. ففي زمن الجفاف والاحتباس، بقلمٍ مغمّسٍ بحبر الحكمة، وبوعيٍ مخضّبٍ بقلق السؤال عن الهوية، يرتفع صوته ليعلن الرّفض القاطع لجميع أشكال الظّلم والهيمنة والتسلّط والاستعباد الممارَس، ليس فقط ضدّ بني آدم، إنّما ضدّ الطّبيعة الأمّ الحاضنة لكل حيّ.
لم يُصَب حبيب معلوف بفيروس اليأس والتهاب الخيبة المزمن. لم يدمّر الرجوع الى الوراء توقَه لإصلاح ما تبقّى، ومتابعة نزف الجهد تلو الجهد. قفز من "على الحافة" "الى الوراء" مباشرة في محاولة لـ"نقد اتجاهات التقدّم" معبّرًا عن "الحاجة الى أخلاق كونية جديدة". ولفت الانتباه الى قيمٍ كانت تسود تعاطي الانسان مع بيئته، لكنها اندثرت. صوت صارخ ينبّه الى أن الامور تسيرُ بسرعةٍ قصوى "الى الوراء" غير آبهة برَدارات المراقبة المعطّلة عن كشف هوية المشاغبين الذين امتهنوا التخريب نهجًا، والاستغلال مسلكًا، والجشع خلُقًا يرفعهم الى مرتبة سلاطين هذا العالم. ولا ينفكّ الكاتب يشير بقوة الكلمة والبحث الرّصين إلى هول الكارثة، وحجم التّدهور الذي يضرب أرجاء الارض برمّتها: لم يعُد هناك من بقعة ولو محدودة بمنأى عن التقدّم المتَجه الى الوراء.
          ما يميّز هذا الكتاب أنه مجموعة مقالات أدرجت في سياقٍ نصّي واحدٍ يربط الفقرات والفصول بعضها ببعض، على نحوٍ متّسقٍ ومنسجمٍ، وأسلوبٍ سلسٍ يلامس الشعر في بعض الاحيان، وبأسلوب متمرّسٌ بطرح الاسئلة واستجواب القارئ، يغوص في بعض الاحيان في التحليل النفسي والبحث عن تفسيرٍ مقنعٍ لهذا السّلوك أو ذاك، بخاصة عندما يبحث في ظاهرة التّشويش كظاهرة عشوائية فوضويّة تضرب نظام الطّبيعة البشرية على أكثر من صعيد، ويميَز هذه الظاهرة من الفراغ أو الخواء، كذلك عندما يصغي الى "صراخ الاشجار". فالكتاب موزّع بين عناوين عريضة وأخرى تفصّلها بالحرف الرفيع، تبدأ بـ"سؤال الهوية" كمحاولة فلسفية للبحث المتأنّي في أسس الواقع البيئي المأزوم، لكي تنتهي بفتح ثغرة أملٍ في جدار الفوضى المدمّرة من خلال "الرهان على الصدفة".
 وحبيب معلوف منحازٌ علنًا الى المرأة الأمّ، مطالبٌ بحقوقها بعيدًا من منطق  حضارة الرجل، ومتهكّمٌ بالمطالبة بمساواتها به. ينتقد أسلوب الحركات النّسائية المعاصرة التي اعتمدت على "المنطق الذّكوري نفسه وعلى الخلفيّة المفاهميّة نفسها". يرى أن الحضارات القديمة كانت حضارة المرأة "الأمومية"، وهي أقرب الى الطّبيعة من حضارة الرجل "الذّكورية" التي تهدّد البيئة والطبيعة وديمومة الحياة (ص300). يتحسّر على تخصيص المرأة بيوم عالميّ يتيم في السّنة بعدما كانت هي "العالم والخصب والرّحم العالمي ومصدر كل شيء حي" (ص299). ويرى "أن مشكلة الحركة النّسوية عمومًا أنها أبقت على منطق حضارة الرّجل نفسه. كما حافظت على المعتقدات والممارسات التّمييزيّة نفسها، على الرّغم من رفضها لها، ولم تطلب العدل والمساواة مع باقي الكائنات، حين طلبته لنفسها من الرّجل. فمن يقبل بتمييز نفسه عن باقي أنواع الكائنات الحيّة، من يقبل "بمبدأ التمييز" نفسه، لا يستطيع أن يطالب بوقف العمل به مع باقي أفراد النّوع نفسه. وذلك كون البشر، من وجهة نظر منطقٍ آخر (غير المنطوق بعد أو غير المفهوم بعد ربما)، متماثلين مع النّباتات والحيوانات والصّخور في أنهم جميعًا يعيشون كأعضاء في "المجتمع الايكولوجيّ"نفسه" (ص302). ويدعو المؤلّف إلى جعل يوم المرأة العالميّ "فرصة للتّأمّل ولإعادة البحث والتّفكير في منطق جديد، وهو يحاول أن يستنطق الاشياء عينها، من دون إسقاطات إنسانيّة (ذكورية) تسلّطية. ويدعو إلى إعادة تأسيس لغة أموميّة جديدة لترأف بحالة هذا العالم، وتردّ الأشياء الى نصابها"(ص302).
هذه النظرة توحّد مصير جميع الكائنات لأنها تنتمي الى المكان نفسه أو "المجتمع الايكولوجيّ" عينه. فوحدة المصير باتت من وحدة المكان، لا فرق بين أبيض وأسود، بين المرأة والرّجل، بين الصّخرة والطّفل، بين الزّهرة والدّينصور، فالبشر والنّبات والحيوان مصيرهم جميعًا مرتبط بتدهور الأمن البيئيّ الذي يهدّد حياة كل حيّ، فـ"وحدة الحياة" تعني "وحدة المصير". والكاتب لا يتردّد في إعلان "أن الانسان والحجر والعصا واحد"، أنه "ثلاثيّ مقوّمات الحياة". يذكّرنا أنّه "في البداية كان الحجر" امتدادًا لليد، وتكملةً لعملها وشكلها" (ص17). فالحجر، هذا المرميّ على قارعة الطريق، رأى فيه "رمز النظام والانتظام"، إذ برمية من الرّاعي أو أكثر ينتظم القطيع. وبفضله بنى الأجدادُ الحفافي وتأسّست التّجربة الزّراعية. عندما نقرأ ما كتبه المؤلَف عن الحجر تحت عنوان "من عصر الحجر الى حضارة البحص" لا تجد نفسك أمام مناضل بيئي رفع الصوت عاليًا في وجه وحش الكسّارات، وقدّم الدراسة تلو الاخرى لإبراز الضّرر النّاتج من طحن الجبال،  إنّما يخيّل اليك أن المؤلَف يغرق في مرثاة يندب فيها ميتًا شابًّا مسجًى قبل الجنازة. ترد كلمة "كان" و"كان" ومن ثم "كان" خمس عشرة مرة، لتبرز الأمجاد التي حقّقها الحجر يوم كان الانسان رفيقًا له، لا يستعبده، بل
يتواصل معه، فيبرهن "أن سوء حال البشر من سوء حال الحجر" (ص22).
عبّر المؤلف في كتابه عن انسجام عميقٍ مع عناصر الطبيعة، مبنيّ على الشّواهد الحيّة المستلّة من تجارب الحياة اليوميّة وليس من الوهم والخيال العاطفيّ. كتب (ص 25) نصًّا تحت عنوان "حبيبي الحجر" يذكّرنا بـ"الطّلبة" في الليتورجيا المارونيّة التي يتلوها المؤمنون لطلب الرّحمة والشّفاعة، ثم ينهي الطّلبة بنفَسٍ جبرانيّ واضح المعالم. يقول:
"يا مقعدًا صلبًا يوم احتاجك مزارعٌ لاستراحة قصيرة... لا تترك مكانك للبلاستيك.
يا حجر المعمار   لا تغضب.
يا مخدّة الفلاح   لا تيأس.
يا عاريًا         لبّس منازل البردانين.
يا خالدًا         اشفق على أصحاب الاجسام المتحلّلة والفانية.
[...]
أما أنت، إذا أحببت، فلا تُهدي حبيبتك وردة. الورد والزهر لا يدومان.
اهدها حجرًا [...] واترك له الكلام.
يا حجر الماضي ، يا أجمل قصيدة حب لم تُكتب، أُدخُل قلب حبيبتي، وتحجّر هناك.
أنت أجمل الهدايا.
أنت أجمل حكاية".

          لقد قرأت الكتاب بشغف وتمعّن، ووجدت فيه الكثير من الأفكار الّتي أعتنقها اعتقادًا ورؤية. وتمكّنت من أن أجد فيه مقالاتٍ مناسبةً وعصريّة نظرًا إلى ما تتمتّع به من خصائص علميّة ومعرفيّة. ففيه 89 مقالة صيغت بلغة مُتقنة ومنهجيّة علميّة، يتخاصر فيها العلم والأدب، وتّذكّر بمسألة الوجود فلسفيًّا وعمليًّا بدل التّلهّي بما هو موجود ومصنوع، وفيها دعوة لاستبدال التّنافس والتّزاحم والحسد بقيم التّعاطف والتّراحم والتّسامح، وفيها دعوة إلى حبّ الطّبيعة واستغلال ساعات الفراغ للمشي والخروج من ضوضاء المدن، والتّخفيف من نزعة حبّ التّملّك والاستهلاك المادّيّ، والتّوجّه نحو حبّ التّعمّق والامتلاء النّفسيّ.