الأربعاء، 30 أغسطس 2017

(كلمة الدّكتور منير معلوف في الاحتفال بإطلاق كتاب الطّبيب الطّريد تكريمًا لمؤلّفه الدّكتور طانيوس موسى أبو ناضر)
أيّها السّيّدات والسّادة
في تكريم المرحوم الدّكتور طانيوس أبو ناضر وإطلاق كتابه "الطّبيب الطّريد"، واستكمالًا للبحوث، وجدنا في سجلّات رعيّة مار روكز في بسكنتا ما يلي:
باب الأكاليل 1912
أنا الخوري نوهرا أبو ناضر كلّلت الدّكتور طانيوس موسى الخوري مارون أبو ناضر، أمّه مريم ابنة الخوري صالح الحدثي، على زينة ابنة حبيب صوايا من قرية بتغرين من طائفة الرّوم الكاثوليك.
الأشبينان: فضّول حرب وكاملة زوجة سليم جبرايل الهراوي، في كنيسة مار روكز، وفسّح لهما سيادة المطران بولس مسعد. فرنساويان.
(تسجيل) الثّلاثاء في 15 تشرين الأوّل 1912
باب الوفيّات 1929
توفّي الدّكتور طانيوس أبو ناضر في بيروت في 20 شباط 1929 ودُفن في 20 شباط في كنيسة مار روكز في بسكنتا.

أمّا قصّتي مع كتاب "الطّبيب الطّريد" فطويلة، أختصرها بكلمات: قرأته بنسخته الأصلية سنة 1983 عندما أعارني إيّاه أحد الأقارب فوجدت فيه سيرة ذاتيّة مشوّقة. ثمّ أضعت أثره بعد وفاته وبحثت كثيرًا فلم أجد إلّا نسخة مصوّرة منه عند أحد الأصدقاء. فنشرته على موقعي الإلكتروني بطريقة PDF وعملت زهاء سنتين على إعادة كتابته وتنقيحه وتحقيقه، وعندما عرضتُه على الحركة الثّقافيّة في بسكنتا والجوار، تبنّت طباعته ونشره بمباركة وتغطية وزارة الثّقافة اللبنانيّة.
لِمَ الاهتمام بهذا الكتاب وبكاتبه تحديدًا؟
1.    في اللغة والأسلوب: بلاغة فريدة لافتة، تجعلنا نتساءل: من أين له هذا؟ ويأتي الجواب: من بسكنتا إلى مدرسة مار يوسف في عينطورة إلى معهد الطّبّ الفرنسيّ في بيروت، ثمّ إلى نيل شهادته في الآستانة. ولكنّ الأهم هو هذه البيئة الثّقافيّة البسكنتاويّة الّتي نشأ فيها. فإذا قرأت الكتاب ستتعرّف حالًا إلى بيئة المعلّم عبد الله غانم وفيلسوف الشّخروب ميخائيل نعيمة والشّاعر الحزين رشيد أيّوب والفيلسوف سليمان الكتّاني وغيرِهم الكثيرين. وأبو ناضر في هذا الكتاب يسرد الأحداث بطريقة دقيقة بسيطة واقعيّة ومشوّقة، ويعلّق عليها باسطًا أفكاره وشعوره بعناية وصدق. وينقل الحوارات الّتي تزيد الحبْكة تماسكًا وتعميقًا، وتكشف انفعالات المتحاورين وتبيّن جوانب شخصيّاتهم. ناهيك بالوصف الدّقيق الّذي يرافق الأحداث وقد يستمهلها أو يقطعها من حين إلى آخر، فيوضح تأثير الموصوفات في إغناء الأحداث، ويزيد الحلقات السّرديّةَ تماسكًا. وهو يستخدم المفردات المعجميّة اللازمة المطابقة لمدلولاتها بعامّة، وحين تحيد هذه المدلولات تتّخذ الدّوالّ أبعادًا رمزيّة غنيّة وموحية، مـمّا يدلّ على متانة لغته، مع أنّه طبيب وليس متخصّصًا في اللغة والأدب. زد على ذلك بعض السّجْع اللطيف، الّذي يَبرُز أحيانًا عند الانفعال الشّديد وعندما تجيش العاطفة.
2.    في التّوثيق والتّأريخ: يخبر أبو ناضر قصّة هروبه بالتّفصيل خلال نحو أربع سنوات، أي منذ اندلاع الحرب العالميّة الأولى عام 1914 حتّى نهاية شهر شباط من عام 1918. وقصّته التّاريخيّة هذه تعدّ من نوع السّيرة الذّاتيّة، وقد روى فيها المطاردات والتّعقّبات والظّلم الّذي ألحقته الحكومة العسكريّة التّركيّة بالنّاس، وأسباب المجاعة ووقائعها ونتائجها، وأعداد القتلى في بعض القرى. ولعلّ هذه القصّة بحقيقتها وواقعيّتها وحسن سردها وبلاغة تعابيرها قد أوحت بالكثير لأدباءَ كتبوا بَعده رواياتٍ عن هذه الحقبة من التّاريخ (كما الرّغيف لتوفيق يوسف عوّاد 1939)، كما أفادت مؤرّخين في توثيقهم لوقائعَ جرت خلال أربع سنوات، إبّان الحرب الكونيّة الأولى في لبنان والمنطقة.
3.    مستوى الموضوع: إنّ هذا الكتاب بمستواه الموضوعاتيّniveau thématique  يهدف إلى تغذية الرّوح الوطنيّة والأخلاقيّة والإنسانيّة بعامّة، والدّفع بالقارئين إلى رفض الظّلم، علاوة على رواية الأخبار لتذكّر الماضي والاتّعاظ بتجاربه.
4.    قيمته الأدبيّة: إنّ أول من كتب في فنّ السّيرة الذّاتيّة هو الأديب الفرنسيّ جان جاك روسّو الّذي أرسى قواعد هذا الفن حين صدر كتابه الاعترافات  les confessions 1789 (تاريخ الثّورة الفرنسية). وعند العرب، يعتقد كثيرون أنّ الدّكتور طه حسين هو الرّائد والأب الرّوحيّ لهذا الفنّ في الأدب العربيّ الحديث، فقد صدر الجزء الأول من كتابه "الأيام" عام 1926 والجزء الثاني عام 1939. وقد بحثت كثيرًا فلم أجد أحدًا كتب سيرة ذاتيّة قبل ذلك بحسب المواصفات والخصائص الّتي نعرفها في أدب السّيرة الذّاتيّة الحديثة. وهذا ما يجعلني أجزم أنّ الدّكتور طانيوس أبو ناضر هو أوّل من كتب سيرته الذّاتيّة بشكل متقن وفنّيّ عند العرب. فلقد نشر كتابه هذا في شكل مقالاتٍ متسلسلةً في جريدة البشير البيروتيّة (أصدرها رئيس الآباء اليسوعيين الأب مونو) في العامين 1918 و 1919. وعندما طُبع هذا الكتاب أوّلَ مرّة في المطبعة الكاثوليكيّة في بيروت عام 1920 لم يطّلع كثيرون عليه بسبب نُدرته. فكتاب "الطّبيب الطّريد" إذًا يُعدّ أوّلَ سيرة ذاتيّة عند العرب.
إنّنا نضع هذا الكتاب القيّم بين أيديكم ليبقى ذُخرًا للمؤرّخين وللأجيال القادمة. وعسى أن يُقبل الطّلّاب على قراءته بعناية، فيعمدون إلى دراسة هذه السّيرة الذّاتيّة بمؤازرة المنسّقين كقصّة متكاملة، ويدرسون ما وثّقه الكاتب ببيانات مطالعة: كأسماء الأشخاص والعائلات (بعض أقاربهم الأحياء يعرف الكثير من هذه الوقائع) وألقابِ مسؤولين حكوميّين وعسكريّين ومحلّيّين ووظائفِهِم ورتبهم، وأحوالِ الطّقس والأحداث والوقائع الّتي وقعت بالتّفاصيل والتّواريخ إبّان الحرب، والمدن والقصَباتِ والقرى والأماكن والمواقع والاتّجاهاتِ والمعالم والأديار والكنائس والتّلال والجبال والأودية والطّرقاتِ والمسالك والمغاور والغابات والأعشاب والنّباتات والحيوانات البرّيّة.
إنّني إذ أشكر الحركة الثّقافيّة في بسكنتا والجوار، وبخاصّة أمينها العامّ، الأستاذ فرنسوا حبيقة، الّذي كان لنا إزرًا وسندًا في جميع المراحل، أشكر أيضًا الدّكاترة والأساتذة المحاضرين على هذه المعلومات القيّمة الّتي أغنَونا بها.
وأشكركم جميعًا لحضوركم الّذي زيّن اللقاء الثّقافي. وقد تُتاح الظّروف لنا لنبدأ الحلْقة الثّانية من عملنا هذا، أي ببدء العمل على إنتاج فيلم وثائقيّ أو غير وثائقي متكامل يجسّد ما ورد في هذا الكتاب.

وإلى محطّات ثقافيّة أخرى. 
https://drive.google.com/file/d/0B5x-nvsBYlZseUJFdnVfclk2NVE/view


السبت، 19 أغسطس 2017

«الطبيب الطّريد» أول رواية لبنانية سيرة ذاتية

من قال إنّ النقد الأدبي، في لغتنا العربية، الذي يطاول الشعر والنثر والأنواع المصوغة فيهما، منذ بداية النهضة الأولى (العصرية) وصولاً الى النهضة الثانية (مرحلة ما قبل الاستقلال)، قد أماط اللثام كاملًا عن أعمال أدبية وأسماء كتّاب أو كاتبات، أو أنه قلب الصفحة من دون رجعة الى الماضي غير البعيد نسبياً؟
للإجابة، قد يقول البعض إنّ اللحظة المعاصرة تمحو تاريخ ما قبلها، وإنه لمن العبث بمكان أن يعاود تأريخ ماضٍ أدبيّ لم يعد له أثر في حاضرنا، عنيت القرن الواحد والعشرين. إلّا أنّ الأمانة العلمية تقتضي من الناقد وعصره ومجتمعه المعرفي أن تستوفى الإحاطة بمجمل الأدباء شعراء وروائيين وقصّاصين وكتّاب مسرح وغيرهم، من أجل أن يتّضح السياق الإبداعي الذي كان يسوق كلًّا من هؤلاء الى الكتابة والإبداع، ومن أجل تقدير القسط الذي أنجزه كلّ منهم في صورة النتاج الأدبي العام.
طانيوس أبو ناضر الطبيب هو من هؤلاء الكتّاب المجهولين، أو الذين لم يتسنَّ لهم منبر يضيء على أعمالهم. من مواليد بسكنتا، أواخر القرن التاسع عشر، «درس في عينطورة، وتعلّم الطبابة في معهد الطب الفرنسي في بيروت، وأخذ شهادته في الآستانة»، وفق محقّق الكتاب بعنوان «الطبيب الطريد»، الباحث منير معلوف. والكتاب صادر هذا العام (2017) بطبعته الثانية، عن منشورات الحركة الثقافية في بسكنتا، ويقع في 173 صفحة من القطع الوسط، في حين أنّ الكتاب بطبعته الأولى (1920) كان في 191 صفحة وصدر عن المطبعة الكاثوليكية في بيروت. ثمّ إنّه لم يُعرف للكاتب الطبيب غير كتاب يتيم كان له أثرٌ عميق في وجدان الكتّاب اللبنانيين لفترة قبيل الاستقلال وبعده لا سيّما كتّاب القصة والرّواية على ما سنبيّنه لاحقًا.
لا يخفي الكاتب الطبيب طانيوس أبو ناضر قصده في تأريخ حقبة من حياته، تمتدّ من 24 أيلول من العام 1916 وحتى «أواخر شهر شباط (فبراير) من العام 1918» (ص:173)، أي ما يقارب الثمانية عشر شهراً، في نزعة تأريخية وتوثيقية دقيقة، تبيّن للقارىء أنّ كاتب «الرواية» – مصطلح ورد على لسان الكاتب في ختام الكتاب (ص:173)- أنه وإن أنكر كونه «من الرجال السياسيين، ولا من الكتبة المؤرّخين»، فإنه عزم على نقل تفاصيل المطاردات في إثره وقد توالى عليها الجنود اللبنانيون، المأمورون من «الحكومة التركية الحربيّة التي ما ونيت تلاحق الوطنيين وتحكم عليهم بالسجن والنفي والإعدام. أما التّهمة التي ألصقت بالطبيب فكانت سعيه، مع غيره من النبهاء والمقتدرين في جبل لبنان، الى تخزين القمح في زحلة وتوزيعه على القرى في جبل لبنان، بعد أن ضيّق الحصار البحري على أهاليه، فانقطعت البضائع والأموال التي كان يرسلها المغتربون الى الديار، وازداد خطر المجاعة. وزاد الطين بلّة أنّ «الطبيعة أرسلت جيشًا عرمرمًا في أوائل ربيع عام 1915، لم يشاهد الأقدمون مثله، فأتلف جميع الزّروع والبساتين والجنائن والتّوت والكروم والخضار والفواكه، حتى الغابات، وترك كلّ حيّ فيه يتضوّر جوعًا» (ص:10).
لم يعتمد الكاتب توزيع الرّواية إلى فصول واضحة المعالم، وإنما جعلها في مشاهد روائية متعاقبة زمنيًّا، منطلقها العنوان الدالّ على اسم إحدى المغاور التي لجأ اليها الراوي-الكاتب والشخصية المطارَدة برفقة عدد من الأقارب والأصدقاء الخلّص. بيد أنّ القارئ يسعه أن يستبين من الكتاب خطّة تأليفية بسيطة: قضت برسمه، في مستهلّ الرواية، إطار الأحداث الزمني والمكاني، والاجتماعي-الاقتصادي، من حيث إهمال المواطنين في جبل لبنان الزرع، لاتّكالهم على ما يأتيهم من حوالات المهاجرين من أبنائهم، في شرق الأرض وغربها، يقابله صلف الأتراك ومصادرتهم الموادّ الغذائية وأدوات النقل بحجّة لزوم استخدامها لغاية الحرب «العامة الأوروبية الطاحنة» عام 1914.
ولا يلبث الكاتب-الراوي أن يُدخل القارئ في أزمته، أو في العقدة («القبض عليك» ص14)، بتهمة خرق الحصار البري والبحري الذي فرضه الأتراك على كلّ البضائع والمواد الغذائية الآتية الى جبل لبنان بهدف إخضاع أهله بالتجويع. ولا تزال المطاردات تتوالى، ويطّرد عنفها، على امتداد الرواية، ويضطرّ الرّاوي أو الشخصية المعنيّة بالسيرذاتية إلى الهرب والتواري في مغاور بعينها وأماكن جردية، ووديان وغابات عصية على المشاة، في الجبال الجرداء الفاصلة بين زحلة وجبال صنين، ولا تزال معالمها ماثلة للعيان حتى إعداد هذه المقالة، من مثل: مغارة الدولاب، شير الشقّ، وشير النّسور، وقلع البلاط، وقلاع الجُرَيْد،
والمردّات، وغابة الضلّيل، ووادي الدّلب، ومغارة الخوري أنطون، والحبّاش، والخلّة. وفيها يسرد الراوي مقدار تحمّله المشقّات الجسدية والنفسية في سبيل ألا يقع فيه الحكم الظالم (بالإعدام) شأن زميله نعوم لبكي ورفيق دربه وتصوّراته في الإصلاح والترقّي.
بيد أنّ النجاة من الموت المحتّم على يد الجنود اللبنانيين، من رجال الأتراك في جبل لبنان، ما كانت لتحصل لولا «الرسائل» العاجلة التي كانت ترده من قبل الأقرباء (ابنة عمه ديبه، زوجتك زينة، أخوه بطرس) ولولا تدخلات أصدقاء خُلّص له من أمثال نعّوم اللبكي، ميخائيل والدكتور قيصر وموسى وغيرهم، التي كانت له الفرصة السانجة للفرار من أمام هؤلاء.
ولكن بمَ افترقت هذه «الرواية» السيرذاتية، الأولى على حدّ علمنا، بعد خمسين عاماً على رواية «خليل الخوري (وي، أنا لستُ بأجنبيّ)، وانقضاء ستة أعوام (1914) على نشر محمد حسين هيكل روايته الشهيرة «زينب»، وثماني سنوات (1912) عن نشر جبران خليل جبران روايته القصيرة «الأجنحة المتكسرة» عن غيرها من الروايات في صنفها، وما أهمّ ملامحها العامة؟
أولاً – اعتبار هذه الرواية مصدراً ذا صدقية للتأريخ لحقبة زمنية، هي حقبة الحرب العالمية الأولى وما تلاها من أحداث المجاعة، في جبل لبنان، والتي أهلكت ثلث سكانه بأقل تقدير. وهي كذلك لأن كاتبها لم يحوّر الوقائع التي سرد على أساسها جزءاً من سيرته الشخصية، وإنما آثر ذكر الأشخاص بأسمائهم الحقيقية بلا مواربة، وبأسماء عائلاتهم التي ما زالت تعرف في تلك الأنحاء الى يومنا. إضافة الى أسماء الأماكن لا تزال بغالبيتها العظمى ماثلة للعيان.
ثانياً- اعتبار هذه الرواية نموذجاً للصنيع الفني الذي أنجزه اللبنانيون المقيمون، من إدراكهم أن ثمة نوعاً أدبياً جديداً –اسمه الرواية – يقتضي منهم عناية بحبكته القصصية، وقد جاءت على يد طانيوس أبو ناضر مشدودة بخيط الرصد البوليسي والهرب من الخطر المحدق. مثلما يقتضي منهم لغة وأسلوباً عصريين وإن خالطتهما توشيحة من السجع لا يسعها الوقوف أمام سيل السرد الجارف، من مثل: «تحيطُ بجميعها الغياضُ والرياضُ، كأنها أبراجٌ معلّقة... قد وقع نظري على مدينة بيروت، فإذا هي كنجمة أطلّت على البحر مثل الفجر» (ص42).
ثالثاً – اعتماد الكاتب أسلوباً عالياً في متانته، وفنيته الأدبية، لا يرضى أن يقرّبه أو يخالطه بعامية لبنانية إلا في كلمات معدودة. أما الشعر الذي وجدناه مبثوثاً في خمسة مواضع من الرواية، فقد كان له الفضل في بث قدر من الوجدان في بحر من القلق على المصير واستخلاص العبر الكبرى، على جاري السرد العربي التقليدي، في «ألف ليلة وليلة» وغيرها. «إذا اعتاد الفتى خوضَ المنايا / فأهونُ ما يخوضُ بهِ الوحولُ» (ص:168).
رواية «الطبيب الطريد» تضاف، منذ اليوم الى قائمة الروايات اللبنانية المؤسسة، ولا كلام بعد عن أثر هذه الرواية في ما تلاها ونسجت على منوالها، في وصف أهوال المجاعة لا سيما رواية «الرغيف» ونقاط التقاطع العديدة بين الروايتين، مما يحتاج الى دراسة مفـصّلة لا تــتــيــحها المقالة هذه.

الاثنين، 24 أبريل 2017

المنحى الإيديولوجي في مذكّـرات الأرقـش. ميخائيل نعيـــمة

المنحى الإيديولوجي في
مذكّـرات الأرقـش
(ميخائيل نعيـــمة)

مقدّمـــة
لعلّ رواية "مذكّرات الأرقش" تشكّل السّتار الأمثل الذي يتوارى وراءه ميخائيل نعيمه، فيمرّر ما يشاء من أفكار وآراء وأيديولوجيّات، من دون أن يبدوَ ذلك وعظًا وإرشادًا أو تعليمًا سافرًا ومباشرًا. وهو يروي من دون أن يتدخّل في مجريات الأحداث، وبذلك يتجنّب السّقوط في فخّ "الأنا" الذي قد يجرّ إلى سوء فهم الأفكار التي يريد الإيحاء بها، ويمنع تداخلها وشخصيّةَ بطل الرّواية، وسيرَ العمل السّرديّ. وبالرّغم من أنّ نعيمه يحاول فصل "الأنا" السّرديّ عن "الأنا" الأديب، إلّا أنّ اصطناع ضمير الغائب "الهو" في الخدعة السّرديّة لا يلغي دور الأفكار التي يبثّها، نقلًا عن مذكّرات الأرقش التي يروي أنّه قرأها. في خاتمة الرّواية يظهر نعيمة بضمير "الأنا"، فيخاطب الأرقش وجهًا لوجه، وإذا الأفكارُ تتلاقى، والرّؤى تتعانق. "والأشواق والرّؤى لا بدّ لها من ترجمان، والتّرجمان لا بدّ له من قلم أو من لسان". ويختم نعيمة رسالته إلى "أرقشٍ" لا بدّ من أن يكون في مكان ما، ويؤرّخها "بسكنتا – لبنان. في 10 تشرين الأوّل سنة 1949". ويوقّع اسمه بما يشبه المصادقة على ما جاء في الرّواية. فوضعُه السّرديّ قائم على اتّخاذ موقع خلف الأحداث الّتي يسردها. ويلاحظ القارئ سيطرة النّزعة الدّينيّة في بدايات الرّواية، واختفاءها في جزئها الأخير. غير أنّ أسئلة كثيرة تتبادر إلى الذّهن ويصعب إيجاد أجابات واضحة عنها. فما تفسير هذا الاختلاف في الأفكار بين أجزاء الرّواية؟ وما هي أبرز الأفكار الّتي تناولها نعيمة في هذه الرّواية؟ وما هي الأيديولوجيّة الّتي أراد أن يبشّر بها؟
ولا شكّ في أنّ هذه الرّواية الغريبة بموضوعها، والغريبة بشخصيّاتها وبأحداثها، تحمل رسالة جديدة. فكيف سمح نعيمه لبطله بقتل حبيبته هو الّذي يحرّم القتل؟! وهل يمكن أن يحبّ القارئ بطلًا قاتلًا؟ هل نحبّه بقدر ما نكرهه؟ يقول متري بولس في هذا الصّدد إنّ "صفات الأرقش لا تنسجم مع الجريمة الّتي ارتكبها. فهو إنسان لا يأكل لحمًا ولا سمكًا. كما أنّه يعجز حتّى عن رؤية الدّم السّائل من جرح بسيط في رأس سنحاريب، فيفقد الوعي عند رؤية الدّم، ويتقزّز من رؤية هرّه يفتك بجرذ من الجرذان..." (متري بولس، 1985، ص 116). هذا الحدث يطرح إشكاليّة كبيرة لم تأتِ فرضيّات حلّها ضمن سياق أفكار نعيمه في هذه الرّواية. ولعلّ الحيرة الّتي يطرحها الموضوع تحدو بالقارئ إلى تفسيرها في سياق الأفكار الّتي يطرحها في أنّ الطّبيعة الإنسانيّة لا تبيح الإساءة والقتل. وأنّ جوهر الإنسان روحيّ، والصّراع بين الرّوح والجسد ينبغي ألّا يؤدّي إلى القتل أو إلى تبرير الجريمة والعنف بعامّة. بل إنّ هذه الازدواجيّة مصدر غنى وتكامل، وعلى الإنسان أن يطوّع غرائزه لصالح الحبّ.
لقد ساق نعيمة الموضوعات التي طرحها من غير ترتيب زمنيّ محدّد، ومن غير نسق منظَّم في طرح الأفكار. وذلك يتلاءم وطبيعةَ العمل الأدبيّ في المذكّرات. فكلّ يوم يحمل جديدًا يبعث على التّفكّر، وكلّ حدثٍ يطرأ يجرّ إلى التّأمّل. وما أكثر الأحداث التي يجب التّوقّف عندها لأخذ العبر! فالقضايا الإنسانيّة كانت ولا تزال مغلّفةً بالأسرار والرّموز. ولكنّ الإنسان ليس جسدًا فحسب، انّما هو أيضًا روح تتوق لتعانق الرّوح الأزليّة. فأين موقعه في الكون، وإلامَ مآله؟  
لأنّ أعمال نعيمه الأدبيّة بعامّة خير معين لتفسير أفكاره في مذكّرات الأرقش، فإنّنا سنعتمدها كمصادر أساسيّة في هذا البحث، مرتكزين على المنهجيّة التّحليليّة والمقارِنة، لإزالة اللبس عن خلفيّات الأحداث الّتي ذكرها الأرقش، والتعابير التي استخدمها في مذكراته لأنّها فلسفة نعيمه في الحياة الّتي تتجلى فيها مثالية عليا، ترتقي بالإنسان إلى الشمولية في تفسير السياسة والاقتصاد والاجتماع، ويحلم بها كل إنسان سويّ. كما تتجلّى ثورة عاصفة ضد القوى التي تسيطر على مقدّرات الشعوب وتتحكم بها. أو حيث يدعو إلى ثورة أو انقلاب على الذات وعلى الواقع، في زمن بات فيه الإنسان سلعة رخيصة في أيدي القوى المتحكمة بمصائر البشر في العيش الكريم.
سنعالج أوّلًا الاتّجاه الدّينيّ ونعلّل سيطرته في بدايات الرّواية، ثمّ نسلّط الضّوء على الاتّجاه الإنسانيّ الّذي اصطبغت به، ونعالج أخيرًا المنحى الإيديولوجيّ الّذي لا يخفى تداخله في الاتّجاهات الأخرى لأنّه الأهمّ.

                                                                                
              أوّلًا. الاتّجاه الدّينيّ
ولد ميخائيل نعيمه في بسكنتا في 17 تشرين الثّاني 1889. وكانت نشأته من أسرة مسيحيّة أرثوذكسيّة، وقد تعلّم في المدرسة التي تديرها البعثة الرّوسيّة، فكان أوّل ما تلقّاه آيات من مزامير النّبي داود، إضافة إلى "معرض الخطوط" و"مدارج القراءة" لجرجس همّام. وتجلّت عبقريّته، فأرسلته البعثة على نفقتها طالبًا إكليريكيًّا إلى مدرستها في النّاصرة (1902- 1906). وبعدما حصل على الشّهادة الثّانويّة، عادت الجمعيّة المذكورة فأرسلته إلى المدرسة الإكليريكيّة الكبرى في بولتافا في روسيا (1906 – 1911)، وهذه الإكليريكيّة كانت من أكبر المعاهد اللاهوتيّة لإعداد الكهنة في روسيا آنذاك (راجع الخورسقف بطرس حبيقة، لا تاريخ، ص 288).
بدأ نعيمة كتابة "مذكّرات الأرقش" عام 1917، إلّا أنّه انقطع عنها بسبب الحرب العالميّة الأولى. ثمّ عاد ليكملها عام 1949. يقول نعيمه: "كان القلم يجري بالحروف، ومن الحروف تبرز ملامح فتًى غريب الأطوار، في رقعة وجهه آثار من الجدري. ولذلك أسميته "الأرقش" وأسميت الكتاب "مذكّرات الأرقش" (المجموعة الكاملة، 1979، ص 356).
أمّا أسلوب الأديب في تعريفه بالأرقش فهو الأسلوب الرّوائيّ الكلاسيكيّ: في البداية نتعرّف إلى الأرقش الخادم عن طريق وصف صاحب المقهى له، ثمّ تتكشّف جوانب هذه الشّخصيّة الدّيناميّة الغريبة تباعًا، من خلال ما نجده في المذكّرات؛ ولكنّ القصّة التي نقرأها لا تتّضح إلّا عندما تنتهي الرّواية بالتّكملة التي هي في الحقيقة بداية القصّة.
"ومذكّرات الأرقش مدوّنة باسم اليوم فقط، دوّن تاريخه أو تاريخ الشّهر والعام، وإذا كان نعيمه لم يفهم الغاية من ذلك – كما يذكر في ختام التّوطئة – فإنّنا نظنّ أنّها ليست بعيدة عن الفهم والتّفسير، وتفسيرها أنّ هذه المذكّرات تحمل أفكار نعيمة وخواطره الذّاتيّة، فليس ثمّة معنىً لربطها بأيّ نوع من التّاريخ، فضلًا عن أنّ هذا الإهمال للتّاريخ يتّسق مع طبيعة الأرقش الغريبة عن طبائع البشر، المتمرّدة على أعرافهم وتقاليدهم" (شفيع السّيّد، 1972، ص 191).
بديهيّ أن يبقى هاجس الله مخيّمًا على أقوال الأرقش خصوصًا في بداية الرّواية. فنعيمة كان لا يزال متأثّرًا بالأجواء اللاهوتيّة بعد مغادرته "السّمنار" séminaire في روسيا عام 1911. وهو، في مذكّرات الأرقش، لا يذكر الله خوفًا منه، بل رغبة بالاتّحاد به وبالكون؛ وليس غريبًا أن ينطبع هذا العمل المأسويّ برمّته بمسحة فلسفيّة/دينيّة، لأنّ الأرقش القَلِق الغريب، الذي يتلقّى الصّدمات، يرتضي بأن يكون الضّحيّة. وهو لا يتذمّر ولا يكفر بالله، بل يغوص في جوهره مسلّمًا ومعترفًا بأنّ ما فعله [ونعيمه لم يورد أنّها جريمة، بل أوردها في الخبر الذي نقلته الجريدة] أتى حصيلة الحبّ الكبير، وبعد اقتناع بأنّ الحبّ يكتمل بالموت، إذ يخلع الإنسان ثوبه العتيق ويلبس الجديد، على ما جاء في الإنجيل. وكما يقول الأرقش: "لذاك أنا أرقش وسأبقى أرقش إلى أن أخلع هذا الثّوب وأرتدي سواه. أو كما يقول النّاس – إلى أن أموت" (ميخائيل نعيمه، 1982، ص 16).
ويرتضي الأرقش أن يعيش في الذّلّ والمهانة خادمًا، وقد اتّبع كلام السّيّد المسيح في الإنجيل: "من أرادَ أن يكونَ فيكُمْ كبيرًا فليكنْ خادمًا للجميْع" (مرقص 10: 43). أو "مَنْ يَرْفَعْ نَفْسَهُ يَتَّضِعْ، وَمَنْ يَضَعْ نَفْسَهُ يَرْتَفِعْ" (مَتَّى11:23، 12).
يظهر المنحى اللاهوتيّ إذًا بوضوح في أقواله الّتي تحمل نزعة دينيّة عميقة تظهر بخاصّةٍ في بدايات الرّواية، حيث نجد الكثير من الآيات والإيحاءات والألفاظ التي تتعلّق بالتوراة أو بالإنجيل واللاهوت المسيحيّ. وما يمكن ملاحظته في هذه الرواية أنّ استلهام "العهد القديم" و"العهد الجديد" والوصايا والطّقوس ينحصر في الجزء الذي قبل الصّفحة 45، هذا عدا ذكرِ آدم وحوّاء مرّة واحدة ص 85. وأمّا في الباقي حتّى نهاية الرّواية، فلا نجد آياتٍ من الإنجيل أو من العهد القديم، بل يُذكَرُ اسم الله لمامًا، كما في: "أيرزقنا الله في بيتنا فنرفض رزق الله؟" (ص 62). و"جلدٌ لَفَّني به الله من أمّ رأسي حتّى أخمصيّ" (ص 82). و"صلِّ، يا أرقش، صلِّ" [مكرّرة] (ص 98، 99، 101).  و"باركت ربّ الحياة..." (ص 115).
وشخصيّة الأرقش الغريبة تؤمن بالله إيمانًا ثابتًا. فهو الخالق، "إله الصّمّ والبكم والمتوحّدين"، و"إله الألغاز والأحاجي" (ميخائيل نعيمه، 1982، ص 106). ولكنّه لا يحمّله مسؤوليّة الشّرّ، فكلّ ما في الإنسان والطّبيعة جزءٌ من الله. وما الشّرّ إلّا وليد الجهل، وكلّما سار الإنسان في دروب المعرفة اتّحد بالكون واتّحد بالله. فالإنسان إله، ولكنّه لا يعرف قدْر نفسه، بل يقوّمها ويثمّنها بالدّراهم: "سبعة آلهة بثلاثة آلاف دولار. يا بلاش!" (ميخائيل نعيمة، 1982، ص 39).
والله هو النّور: "تبارك النّور الذي منه كلّ نور، والذي لا تغشاه ظلمة قطّ. وإنّ في داخلي لجذوةً من ينبوعك أيّها النّور الذي لا يخبو. وما أشدّ شوقها إليك وإلى الفناء فيك!" (ميخائيل نعيمه، 1982، ص 42). وفي هذا القول جوهر وأسّ فلسفة نعيمة الذي يعتبر الاتّحاد بالله غايته في الوجود. فالله هو النّور والينبوع، وفي قلب الإنسان قبس منه، وقد خلقه الله على صورته ومثاله. وفكرة الاتّحاد بالله والفناء فيه ليست جديدة، بل ترقى إلى الفكر الصّوفيّ القديم. فالله لا يُدرَك إلّا بالتّأمّل والسّكوت، كما يقول الأرقش: "والذين ينادون باسم الله من غير أن يدركوه بالتّأمّل والسّكوت – من غير أن يجدوه في أنفسهم – إنّما ينادون باسـم لا مُسمّى له" (ميخائيل نعيمه، 1982، ص 26). وكأنّه يريد أن يقول: "أنا في الله، والله فيّ". أو قد يقتبس مـا ورد في قول المسيح في الإنجيل حين سأله تلاميذه: "أين ملكوت السماء"؟ فيجيبهم: "إنّ ملكوت السماوات في داخلكم" (لوقا 17: 20، 21).
يقول الأرقش: "فالأرض هي هي. لا يقدرون أن يضيفوا إليها أو ينقصوا منها ذرّة واحدة". وبكلامٍ آخرَ من الإنجيل: "من منكم يقدر أن يزيد على قامته شبرًا واحدًا؟" (الإنجيل، لوقا 12: 25). فالمعنى واضح، وهو أنّ الخالق القدير حدّد المقاييس والأزمنة بحكمته، وكأنّ كلام الأرقش الذي أوردناه تكملة لتأييد قول المسيح.
واللافت للانتباه أنّ الأرقش عندما يدخل في لعبة الأسماء، يورد أسماء ذُكرت في الكتب المقدّسة: يعقوب، زكريّا، يوسف، داود، سليمان، شمشون، أحمد، بولس (ميخائيل نعيمه، 1982، ص 16، 17). وكأنّه يريد استحضارَ الأسماء التي كلّمها الله أو أوحى إليها، واستذكارَ الأزمنة التي كان فيها يتدخّل ليهدي الإنسان.
لم يجد شين في صندوقة الأرقش إلّا "كتاب العهد الجديد" ودفترًا بسيطًا (راجع ميخائيل نعيمة، 1982، ص 11). وهذا يؤكّد أنّ الرّجل لا يملك من متاع الدّنيا شيئًا، بل أنّه لا يحتفظ لنفسه إلّا بآرائه وبالكتاب المقدّس. وكان صامتًا، فما كان يكلّم شين أو النّاس "إلّا نادرًا بأكثر من نعم ولا" (ميخائيل نعيمه، 1982، ص 9). وهذا الكلام مستوحًى من الإنجيل: "ليكن كلامكم نعم نعم، ولا لا" (الإنجيل، متّى 5: 37). وفي المذكّرات، عندما راح الأرقش يراقب النّجوم، وجد أنّ النّاس "لهم عيون ولا يبصرون. ولهم آذان ولا يسمعون" (ميخائيل نعيمه، 1982، ص 22) (التّوراة، أشعيا 20:32). فهم يمرّون من حوله بالمئات وأبصارهم لا ترتفع عن الأرض.
وفي وصفه لِطمع "شين" وتعلّقه بالأمور الأرضيّة قال: "أمّا الليلة التي يرى فيها زمرة لا بأس بها من مبذّري الأموال والأعمار ودافني الوزنات المعطاة لهم من الله فتنبسط أساريره" (ميخائيل نعيمه، 1982، ص 24) (راجع الإنجيل، متى 25: 14-30). وعن قوّة فكر الإنسان يقول:"ويوم يدرك الإنسان قوّة الفكر ثمّ يستطيع تسييرها على هواه، يومئذٍ يصبح في إمكانه أن ينقل الجبال ويحمل البحار على أكفّ الرّياح" (ميخائيل نعيمه، 1982، ص 27) (راجع الإنجيل، متّى 20:17).
هذه الأقوال تمثّل امتدادًا لفكر نعيمه، الذي يستخدم "فنّ التّأويل" اللاهوتيّ للتّعبير عن آراء يبثّها، مدعومةً بقرائن دينيّة، على طريقة الوحي الذي يوجّه الإنسان في الطريق الصّحيح، ممليًا عليه نُظُمًا ومذاهبَ أخلاقيّةً ودينيّةً واجتماعيّة. فهذا الوحي إذًا يشكّل دعمًا لآرائه. وذِكرُه اللهَ، دعاءً واستحضارًا وتسبيحًا، ينمّ على بعد لاهوتيّ وإنسانيّ عميق. نسمعه يقول في أماكن متعدّدة على لسان الأرقش"حسنة لوجه الله". و"بارك الله لك فيه". و"للّه كم سقيتك واستقيت منك!" و"معاذ الله وكرم الله". و"للّه كم طريقٍ سلكت يا عين". و"سبحان من غزل وحاك وسبحان من فصّل وخاط". و"للّه كم مشيتَ بي ومشيتُ بك يا جسدي". "خزاك الله يا أرقش". و"للّه ما أوسع الإنسان وأضيقه". و"أللهمّ، أذهلني عن نفسي". و"يا إلهي! يا إله الصّمّ والبكم والمتوحّدين"! و"يا إلهَ الألغاز والأحاجي"! و"ربّي وإلهي". و"قاتلك الله". و"باركت ربّ الحياة..."
وفي هذه الرّواية تعابير كثيرة مأخوذة أو مستوحاة من العهد القديم مثل: "قال الجاهل في قلبه: "ليس إله". وإله الجاهل جهله" (ميخائيل نعيمه، 1982، ص 25). والنّاس لا يعرفون الله لأنّهم يريدون أن يدركوه بحواسّهم الخارجيّة. يقول الأرقش: "من طبيعة الإنسان إنكار ما يجهل. فعلامَ لا يُنكر نفسه؟" (ميخائيل نعيمه، 1982، ص 26) فالشعور الدّينيّ بإله وحيد أعلى، إله الكون، يبقى ماثلًا في لاوعي نعيمة، لأنّ الدّين هو في الوقت نفسه طريقة "وهميّة" في شرح الكون وتسلسل ظواهره، وهو بنية اجتماعيّة، وله دور أساسيّ في حركيّة المجتمع وديناميّته.
ويقول في مكان آخر: "أمّا زبائن شين فكأنّ اللّه جعلهم من طين ونسي أن ينفخ فيهم من روحه" (ميخائيل نعيمة، 1982، ص 24).
ومن أقواله النّابعة من وصايا الله التي تسلّمها موسى على جبل سيناء: "اسمع يا فون شوستر. أنت رجل لا تعرف شيئًا عن نفسك، وعن خالقك، وعن غايتك من وجودك. وأنت كذوب ونمّام ومحتال. وأنت تشتهي ما لقريبك. فتسرق وتقتل، وتزني بالفكر وبالفعل" (ميخائيل نعيمه، 1982، ص 31).
وفي ذكره لنوح "قاهر الطوفان ومؤسّس السّلالة البشريّة الجديدة" (ميخائيل نعيمه، 1982، ص 42)، يستعين بالرّمز في مجال نبذه الخصام بسبب أمر تافه في اللغة العربيّة، فيستحضر العهد القديم رافضًا منطق التّخاصم والقتال بسبب خلاف لغويّ عقيم.
لا شكّ في أنّ التّعاليم الدّينيّة توجّه الإنسان نحو خيره وخير الجماعة. ولأنّ ميخائيل نعيمه انخرط في المدرسة الإكليريكيّة منذ نعومة أظافره، فإنّه تشرّب هذه المبادئ وسار في هديها؛ غير أنّه "لم يكن يتلقّف التّعاليم المسيحيّة الكنسيّة بالرّضا والتّسليم المطلق؛ وإنّما كان يضعها موضع المناقشة والتّمحيص العقليّ، وتثور في نفسه علامات استفهام كثيرة عن ماهيّة الإنسان، ومركزه في الكون، وعن معنى الحياة، والخطيئة والفداء، والخير والشّرّ، ومشكلات أخرى كثيرة... ثمّ لا يجد في ما تقدّمه الكنيسة جوابًا شافيًا، لذلك راح يطفئ ظمأه الرّوحيّ حين كان في روسيا بقراءة كتب دينيّة مثل "حيـاة يسوع" لرينان، بيد أنّه لم يظفر من ورائها بطائل، ثمّ وجد نفسه مشدودًا إلى "تولستوي"، أديب روسيّا وفيلسوفها، لما بينهما من قرابة في الفكر والرّوح، فكلاهما مسيحيّ أرثوذكسيّ، وكلاهما شغل نفسه بالتّفكير في قضايا الكون والحياة ولم يقتنع بموقف الكنيسة منها" (شفيع السّيّد، 1972، ص 44).
يقول نعيمة في "سبعون، المرحلة الأولى":
"لقد استهواني تولستوي المفتّش عن حقيقة نفسه، وحقيقة العالم من حواليه أكثر ممّا استهواني مؤلّف "الحرب والسّلم" و"آنّا كارينينا". فأنا كذلك كنت قد بدأت أفتّش بمنتهى الجِدّ عن حقيقة نفسي، وحقيقة العالم الذي أعيش فيه، والمصباح الذي كنت أهتدي بنوره هو المصباح الذي سار على نوره تولستوي، وأعني الإنجيل. فقد ضايقه – مثلما ضايقني – أن تحجب الكنيسة نور ذلك المصباح عن المؤمنين بغيوم كثيفة من الطّقوس، وأن تخلق مسيحيّةً لا مسيح فيها، ولا فرق بينها وبين الوثنيّة إلّا في التّسمية" (ميخائيل نعيمه، 1959، ص 269).  
فكرُ الإنسان صنيعة ثقافته، وحصيلة تجربته في مجتمعه. ونعيمه الذي أراد أن يحدّد موقعه في الوجود والكون، لم تُشِر بوصلة أفكاره إلّا إلى قطب واحد هو الله. لقد تغذّت أفكاره منذ طفولته بآيات المزامير وأفكار الإنجيل، وتربّى في بيئة مسيحيّة مؤمنة، ونشأ في الجبل حيث طهارةُ الطّبيعة وعطاؤها. ولئن رفض الطّقوس التي تحجب نور الله، فإنّه سار توًّا نحو نوره، مستنيرًا بهدي محبته التي تشمل الكون، وتشرق في الإنسان، لأنّه على صورة الله ومثاله. والله محبّة، فكلّ تخطٍّ للذّات، وكلّ اقتراب من الغير بالمحبّة هو اقتراب من الله، لذا نجده ينشغل بالإنسان عن المادّيّات والأرضيّات والدّنيويّات.

ثانيًا. الاتّجاه الإنسانيّ
الأرقش في رواية ميخائيل نعيمه يطرح قضايا الإنسان وعلاقاته بالمجتمع والكون والخالق، ويبدي رأيه في المشكلات التي يتعرّض لها خلال حياته، على طريقة مذكّرات، هي بالأحرى أفكار نعيمة الذي يهدف إلى الإصلاح الإنساني الشّامل، لأنّه يرى النّزعة المادّيّة تطغى على الإنسان وتسيطر عليه، وتسلبه روحانيّته وإنسانيّته. فالنّاس لا يبصرون من الأشياء إلّا ظواهرها. وهم ينشغلون بالمادّة عن الرّوح، متجاهلين الغاية من وجودهم، في حين أنّ لكلّ شيء باطنًا لا يوليه الإنسان اهتمامًا يليق به.
يعتبر الأرقش نفسه ناسكًا بين النّاس، كما استنسك نعيمه في شخروبه. "والتّنسّك بين النّاس أين من هوله التّنسّك بين الوحوش؟ فأنت تستطيع أن تأمن جانب الوحش وأن تكسب أُلفته باللين والمحبّة" (ميخائيل نعيمه، 1982، ص 13). والمحبّة تنتصر على البغض، فالنّاس لا يقدرون على أذيّتك إلّا في جسدك، وقد لا يفعلون خوفًا من قوانين سنّوها.
وهو يرفع من قيمة الصّدق في مقابل الكلام، لأنّ "الكلام مزيج من الصّدق والكذب. أمّا السّكوت فصدق لا غشّ فيه" (ميخائيل نعيمه، 1982، ص 15). لذلك سكت الأرقش والنّاس يتكلّمون. فالسّكوت فضيلة النّفوس الكبيرة المترفّعة عن الدّنيويّات. وما الكلام إلّا بُرقعٌ لبعض الكذب. فعلينا بالصّمت والتّأمّل وكأنّهما مسكّنان للألم. هذا ما عبّر الأرقش عنه عندما خاطب نفسه قائلًا: "وشوقك اللافح إلى المعرفة لا يكفيك وحده حصنًا ضدّ الألم. لا ولا يكفيك التّأمّل، وصيانة اللسان، وكبح جماح اللحم والدّم، وترويض القلب على العفّة والقناعة والتّسامح. كلّ هذا من مخفّفات الألم" (ميخائيل نعيمه، 1982، ص 95، 96).
ويفرّق الأرقش بين قناعة الجسد وقناعة الرّوح، فـ"قناعة الجسد فضيلة. أمّا قناعة الرّوح فجريمة" (ميخائيل نعيمة، 1982، ص 23). والذي ندعوه مادّة هو الأشياء التي تقع تحت الحواس، وهذه الأشياء لا تستقرّ على حال، كما الحواسّ لا تستقرّ على حال. فتعلّق "شين" بالمادّة جعله لا يرى في الحياة أسمى منها، فركنَ إليها واعتبرها إلهه. وبات غير قادرٍ على تخطّي هذه الحالة. وأمّا الأرقش فيرى في المادّة التصاقًا بالأمور الدّنيا. ويرى أنّ الإنسان عليه ألّا يحدّد توق الرّوح إلى التّسامي، لأنّه عندئذٍ يكون مجرمًا بحق روحه.  
وأمّا عن الوطن فيقول: "النّاس يدعون المكان الذي يولدون فيه "وطنًا". وهذه الكلمة مقدّسة في عرفهم [...] أمّا أنا – قسم الإنسانيّة السّاكت - فما أدري ، ولا يهمّني أن أدري ، أين ولدت أو ممّن وُلدت. لذلك لا وطن لي. ولو كان لي وطن لتبرّأت منه. فأنا ابن العالم الأوسع، لا ابن جرم صغير ندعوه الأرض" (ميخائيل نعيمه، 1982، ص 28، 29). ولكنّ الأرقش لا يرفضُ الانتماء إلى وطن، بل يودّ أن يشعر الإنسان، أينما كان، بالرّوابط التي تربطه بكلّ إنسان على الأرض، وأن يشعر بوحدة الكون وبأنّ ما يُسعد الواحد من النّاس قد يشقي الآخر. وبأنّه فرد من تلك العائلة الكبيرة التي ندعوها الإنسانيّة. وهو يسعى بكلّ ما أوتيه من قوى لتحريرها من الخوف، ومن الإنانيّة الضّيّقة. فالنّاس من هذا القبيل عائلة واحدة. إذا مسّ أحدَها ضَيرٌ مسّ العائلة كلّها. والوطن إذًا هو الأرض كلّها، وهي ملكٌ للجميع.
وهكذا الإنسان لا يكتمل إلّا بوجود غيره. لذا عليه أن يفهم أخاه الإنسان، بدلًا من أن يحاول أن يزيله من طريقه. وما الحروب إلّا حصيلة الجهل والأنانيّة والحسد. وعندما يفهم الإنسان قيمة غيره لا يمكن أن يمدّ إليه يدًا للأذى، بل على العكس، يصبح شغله الشّاغل أن يقترب من أخيه الإنسان، وأن يندمج به اندماج الماء بالهواء. وما دام الإنسان يجهل نفسه، فلا بدّ له من أن يمرّ بمراحل العنف والأنانيّة الجامحة والكدَر. فعدوّ الإنسان جهلُه. و"شرّ الحرب الأكبر هو في قتلها الرّوح قبل الجسد؛ بتحويلها قوى الإنسان عن عدوٍّ في نفسه إلى عدوٍّ خارجٍ عنه. وما عدوٌّ للإنسان غير نفسه" (ميخائيل نعيمه، 1982، ص 31).
يعدّد الأرقش سيّئات الحرب ورؤية النّاس إلى الرّبح والخسارة، فالجميع خاسرون وإن ربحوا، لأنّهم يشتبكون في صراع عنيف، وتسيل دماؤهم، وتتقوّض مساكنهم على رؤوسهم، وتتمزّق قلوبهم. والذي يتفوّق في إزهاق الأرواح وتمزيق القلوب، وإتلاف خيرات الأرض، هو الذي تُغدق عليه الحرب أمجادها. فتجلسه على منصّة الشّرف، وتثقل صدره بالأوسمة، وجيوبه بالمال، وأذنيه بالتّصفيق والتّهليل. في حين تمشي المروءة والصّدق والأمانة والمحبّة والسّلم والإيمان بالحياة وعدل الحياة - تمشي في الأزقّة وليس من يسمع وطء أقدامها، أو يعيرها التفاتة عابرة (انظر: ميخائيل نعيمه، 1982، ص 32، 33).
والنّاس يتخاصمون لأتفه الأسباب. فهم حتّى بسبب لغتهم يتخاصمون، ولا يدركون أنّ اللغة وجدت لخدمتهم في إحقاق الحق وفي معرفة ذواتهم. والشّجار الذي دار بين رجلين في المقهى حيث  يعمل الأرقش وأدّى إلى جرح سنحاريب، أتى نتيجة جدال حول اسم "نوح"، أمنصرف هو أم غير منصرف في اللغة العربيّة. "وكان خصام وصياح. [...] لله ما أسرع النّاس في خلق أسباب الشّقاق، وما أبطأهم في خلق أسباب الوفاق!" (ميخائيل نعيمه، 1982، ص 43).  
إنّ الأرقش السّاكت لا يُعدَم وسيلةً للتّعبير عن رأيه في قضايا الإنسان التي تشغل باله. وها هو يجلس على صخرة قرب البحر، يحادث (ساكتًا) فتاة (ساكتة)، فيتساءل عن معنى الحبّ، وبعد البحث في قرارة قلبه لا يجد جوابًا مقنعًا (ميخائيل نعيمه، 1982، ص 33، 34). فكلّما تسامى الإنسان بحبّه عمّا هو أرضيّ، أو بالأحرى كلّما أحبّ الكون كلّه بما وبمن فيه، فإنّه يعتلي قمّة السّعادة.
يرى الأرقش شين يومًا يائسًا، "كأنّه يحمل خبر أفظع كارثة حلّت بالعالم من بعد الطّوفان" (ميخائيل نعيمه، 1982، ص 37) ؛ وما ذاك إلّا لأنّ المصرف الذي أودع فيه نقوده قد أفلس، فخسر ثلاثة آلاف دولار. فيبدي رأيه متعجّبًا، ساخرًا من اهتمامات النّاس بما هو أرضيّ وتعلّقهم بالقشور تاركين اللباب والجوهر. فلقد وزنوا حياتهم بالدّراهم "وأسّسوها على البيع والشّراء. والحياة أخذ وعطاء، لا بيع وشراء. أمّا أساسها فالله" (ميخائيل نعيمه، 1982، ص 39). و"الله يعلّم الإنسان أن يتدرّج في سلّم المعرفة درجةً درجة، حتّى نفهم قصده منّا وقصدنا منه". كأن نفهمَ أنّ المال الذي نسعى لجنيه، ونتخاصم بسببه، ونعبده إلهًا بعد الإله- لا بل قبله- "لا يصلح ركنًا للحياة" (ميخائيل نعيمه، 1982، ص 41). فأعمالنا ترتدّ علينا، ونقاسي الشّرّ الذي يداهمنا وتفتك بنا الأوجاع، فنسأل الله عن السّبب.
والأرقش يقدّس الذّات البشريّة ويعتبر الجسد خزّانًا لله. ها هو يجد العين نافذة على مشهد الإله. ويبارك من صاغها فأبدع، فهي معجزة المعجزات، و"كوّة يطلّ منها الرّوح على الرّوح وما هي بالرّوح" (ميخائيل نعيمه، 1982، ص 83). وعندما يوصي بها للدّود، يوصي بها بما فيها من عوالم لا تحصى ولا تُحَدّ لعوالم أخرى، لتنبعث ثانيةً وتحيا حيواتٍ لا عدّ لها.
ويخاطب الأرقش أذنه ويناجيها. فهي الآلة العجيبة التي لم تعرف الرّاحة منذ كان وكانت، وهي الّتي نفذ بها إلى ضمير الكائنات. ويجد نفسه مقصّرًا في فهم واسترجاع كلّ ما نقلته إلى عقله. فيخجل منها، ومن ضعفه، ومن الكلام البذيء الفاحش الماكر الذي سمعته على مرّ الأيّام والسّنين. لأنّه "كلام يتيه فيه العقل ويختبل الخيال [...] فتنام فيه اللعنة مع البركة، ويتزاوج اليأس والأمل" (ميخائيل نعيمه، 1982، ص 87، 88). ويوصي بها أيضًا للدّود.
ويكلّم الأرقش أمعاءه وأحشاءه وأعضاءه، ومفاصله وعظامه، وجلده وشعره ورقعة الخشب التي نخرها السّوس وهي وجهه. ويخاطب رجليه ويديه، ولسانه وشفتيه، وأظافره وأسنانه، ودماغه ودمه. فأعمال كلّ الأعضاء "تنسجم انسجامًا يفوق حدّ التّصوّر في عمل واحد هو عمل الجسم الحيّ" (ميخائيل نعيمه، 1982، ص 89). ويوصي أيضًا بهذا الجسد للدّود. وينادي أخيرًا قلبه بنشيد طويل عذب فيه الكثير من الموسيقى ومن الفراغ النّصّيّ الموحي:
"وأنت يا قلب –
                          .          .          .          .          .
يا قلب يا قلب - -
                          .          .          .          .          .
يا قلب يا قلب يا قلب - - -
                          .          .          .          .          .
يا نبضةَ الخالق في المخلوق
يا مجمعَ الآزال والآباد
يا مرْكبَ الأحزان والأفراح
يا فوّارةَ الأنوار والظّلمات
[...] يا ناسكًا في صدر ناسك
يا قلب يا قلب يا قلب - - -
                          .          .          .          .          .
يا قلب يا قلب - -
                          .          .          .          .          .
يا قلب
                          .          .          .          .          .
للدّود! - للدّود! - للدّود! -
                          .          .          .          .          .
                          .          .          .          .          .
                          .          .          .          .          .
             .          .          .          .          ." (ميخائيل نعيمه، 1982، ص 90، 91).
واللذّة أخت الوجع. كما الفرح أخو الحزن. ونحن لا نشعر بالواحد إلّا حين يُلمّ بنا الآخر. يقول الموت الذي يحادثه الأرقش: "إنّما أكشف الألم المخزون في النّاس ولا أخزنه فيهم. فالنّاس يخزّنون اللذّة. ومن شأن اللذّة المخزونة أن تتحوّلَ ألـــمًا. لأنّها مبتاعة بالألم" (ميخائيل نعيمه، 1982، ص 57). 
ويصل في تعمّقه بالمشكلات التي تنتاب الجسم كلّ يوم إلى الألم. فيجد ضرسه يسلبه "لذّة النّوم والطّعام والتّأمّل" (ميخائيل نعيمه، 1982، ص 93)، فـ"حيثما الجهل، يا أرقش، هنالك الألم [...] معلّم بليغ هو الألم في كلّ ما يلقيه على النّاس من دروس بين المهد واللحد" (ميخائيل نعيمه، 1982، ص 96).
وعن الزّواج يقول الأرقش: "فكّرت في النّاس كيف ينتهي بهم الحبّ إلى الزّواج. فيموت حبّهم ويموتون. إنّ الزّواج لمقبرة الحبّ. الحبّ يسمو بالمحبّ إلى أعلى؛ والزّواج يشدّ به إلى أسفل. الحبّ يلتهم المحبّ فينشره شعاعًا في الفضاء؛ والزّواج يسحن المحبّ فينثره هباءً في الهواء. الحبّ ذوبان، فتبخُّر، فانعتاق؛ والزّواج تجمُّد، فتصدُّع، فانشقاق. كيف يرضى الحبّ، وهو شعلة من نار، أن يصبح بالزّواج كومة من رماد؟" (ميخائيل نعيمه، 1982، ص 70).
هذه الآراء التي يسوقها الأرقش قد تبدو غريبة لأوّل وهلة. فكيف يتجدّد الجنس البشريّ ويستمرّ بدون زواج؟ وكيف تتمّ مشيئة الخالق في خلقه؟ وكيف يشدّ الزّواج بالحبّ إلى أسفل؟ وهل كلّ زواج مقبرة للحب؟ في الواقع أنّ الأفكار التي يطلقها الأرقش تنطبق على وضع الإنسان الدّونيّ، الذي ما زال يتعلّق بـ "التّقاليد والمراسم التي تواضع عليها النّاس [...] والنّاس تقتلهم تقاليدهم وتصرعهم مراسمهم من حيث يدرون ولا يدرون" (ميخائيل نعيمه، 1982، ص 101). ولئن كان نعيمة، على لسان الأرقش يعتبر الزّواج مجرّد مراسم وتقاليد تؤدّي بالزّواج إلى دفن الحبّ، فإنّه يريد أن يسموَ الرّجل والمرأة إلى الحبّ الكونيّ، الذي لا تزعزع أسسَه العواصفُ والأنواء. فالقشور تذريها الرّيح. ولا سبيل إلى الكمال في الحبّ إلّا بالمعرفة.
وفلسفة نعيمة في هذا الموضوع تكمن في أنّ الله عندما أخذ ضلعًا من أضلاع آدم وخلق حوّاء، "يعني أنّ الإنسان الذي كان واحدًا انشطر إلى اثنين: أصبح ذكرًا وأنثى. وعندما انشطر الإنسان إلى اثنين لم يكن مجال على الإطلاق للتّفضيل بين الشّطر والآخر. فآدم يساوي حوّاء، وحوّاء تساوي آدم. والاثنان معًا يساويان الإنسان الكامل. هذا يعني أنّنا منذ أن اتّخذنا طريق الازدواجيّة، لا نزال سائرين فيها إلى أن نبلغ نهاية هذه الطّريق. ويعود الإنسان فيتوحّد، لا يبقى ذكرًا ولا أنثى. يرقى إلى ما فوق الذّكر والأنثى، إلى ما فوق الازدواجيّة. يعود فيتوحّد لأنّ الله واحد والكون واحد" (بشارة السّبعلي، 1998، ص 43).
هذه الأفكار الرّؤيويّة تعبّر عن فلسفة نعيمة، التي لا تلغي فكرة الاتّحاد بين الرّجل والمرأة؛ بل تحدو بهما إلى الارتقاء والتّسامي نحو الحبّ الأكبر، أي إلى الاتّحاد بالله وبالكون. ونعيمة المؤمن بالحبّ لم يتّخذ له من النّاس زوجًا في حياته. لا لأنّه لم يثق بالمرأة، بل لأنّه اعتبر قدسيّة الإنسان تكمن في التّجاوز، لا في التّزاوج. وأنّ الاتّحاد بالرّوح أوثقُ من الاتّحاد بالجسد. لذلك انقطع إلى ما هو أسمى، أي إلى الحبّ الكلّيّ.
وعندما ذبح الأرقش حبّه بيده، وضع الحبّ فوق كلّ شيء. وكتب: "ذبحت حبّي بيدي. لأنّه فوق ما يتحمّله جسدي ودون ما تشتاقه روحي" (ميخائيل نعيمه، 1982، ص 134).
- العمل
عندما يسائل الإنسان نفسه، يبدأ بالارتقاء نحو المعرفة. فظواهر الأمور لا تكشف النّقاب عن جوهرها. والأرقش يرى الأشياء فيعقِلها، ويجد طريقًا إلى فهم كنهها. فالثّياب التي يرتديها من أين وصلت إليه؟ ومَن حاكها؟ ومن أيّ صوف؟ يقول: "كم لمستكِ يدٌ من قبل أن تلمسي بدني. فأنا إذ ألبسك جلودًا فوق جلدي لا أعرف ماذا أنا لابس من أوصاب النّاس وأتعابهم، وبركاتهم ولعناتهم، ومحبّتهم وبغضهم، وملذّاتهم وأوجاعهم" (ميخائيل نعيمة، 1982، ص 82). 
فمن القضايا الإنسانيّة التي شغلت الأرقش قضيّةُ العمل والعمّال، وهو عمل خادمًا ليشعر بلذّة العمل، ولكنّه لم يشعر في عيد العمل بأنّ العيد عيده. وبعد، أليس كلّ يوم عيدًا إذا تزوّد بمعرفة جديدة؟!
وفي عيد العمل يجد الأرقش نفسه الوحيد بدون عيد، لأنّ أعياد النّاس "هي أعياد عيون وآذان وأنوف وجيوب وبطون" (ميخائيل نعيمة، 1982، ص 108). وكلّ ما يعملونه، أو يتفوّهون به، يكون كفرًا بتلك النّعمة، نعمة العمل الخلّاق التي لا أحدَ يذكرها شاكرًا الخالق.
ويطول الكلام على العمل، فيعدّد الأرقش أدوات العمل والعُدّة، ويمجّد النّعمة التي يسبغها العمل على النّاس، لأنّ نعمة العمل الخلاّق هي أكبر نعمة. ويعجب الأرقش من بعض النّاس الذين يرون في أيّ عمل حطًّا من كرامتهم وشينًا لسمعتهم. لأنّهم لا يعرفون "بأيّة نعم سماويّة يتمتّعون" (ميخائيل نعيمة، 1982، ص 109). وما يجدر ذكره في هذه المقاطع الحكميّة ظهور الجرس الموسيقيّ الذي يرنّ كالشِّعر في الأذن، ويصدح نشيدٌ بالنداء المكرّر للنّعم التي يسبغها العمل على النّاس، كأنّه طلبة تذكّرنا بالرّتب والطّقوس الدّينيّة:
"يا نعمة المحراث والمعول والمنجل
يا نعمة الكور والسّندان والمطرقة
يا نعمة الفأس والمنشار والإزميل
يا نعمة المغزل والخيط والمنوال
يا نعمة الشّاقوف والشّاقول والزّاوية
يا نعمة القرطاس والحبر والقلم..." (ميخائيل نعيمة، 1982، ص 108، 109).

ثمّ ينادي العاملين بنشيد حماسيّ لا يقل هيبةً عن النّشيد الأوّل. وتكثر فيه الأصوات المفخّمة التي توحي بالعظمة:
"أيّها الضّاربون في الأرض ظهرًا وبطنًا
الوائدون أيّامهم وأحلامهم في الظّلمات والفلوات
النّاثرون بسماتهم ودموعهم على مفارق الطّرق
المرضعون أمانيَهم من دماء قلوبهم
المطعمون من عضلاتهم جياع الصّخر والشّوك..." (ميخائيل نعيمة، 1982، ص 111).


ثالثًا. المنحى الأيديولوجي
الأيديولوجية (باليونانية القديمة: ἰδέα إيديا، «فكرة»، وλόγος لوغوس) مجموعة منظّمة من الأفكار الّتي تشكّل رؤيةً متماسكةً شاملة، وطريقةً لرؤية القضايا الإنسانيّة من بعض جوانبها، مع إمكان استبعاد النّظريّات الدّينيّة أو اللادينيّة. فقد تكون الأيديولوجية بديلًا من هذه النّظريّات، لأنّ العبادات في الأديان متعلّقة بالعقائد (dogmes) والمعتقدات وتتحقّق بالممارسات؛ وأمّا الأيديولوجية فجدليّة الفكر والسّلوك، وتعبير عن الانتقال من التّفكير والفلسفة إلى البرامج التنفيذيّة في المجتمع، إذ يحسب الإنسان الإمكانات وينظّم الجهود ويضع البرامج المؤثّرة والفاعلة في وقائع الحياة وظروفها ليصل إلى تغيير الواقع. كما أن الأيديولوجيّة من جهة ثانية هي أيضًا مشروع يتمّ بوساطته الانتقال من الفرديّ نحو الجماعيّ، من الخاصّ نحو العامّ، لأنّه يبتغي صياغة المصالح الفرديّة المختلفة في مشروع عامّ. ولأنّ ساحة صراعات الأيديولوجيّات هي الفلسفة الّتي بها يتمّ نقدها أو تطويرها أو تبديلها، والأداة الفاعلة في هذه الأيديولوجيّات هي الجماعة الّتي تصبّ جهودها في سبيلها، فإنّ توجّه المفكّرين وأصحاب الرّأي في المجتمعات هو نحو هذه الجماعة.
فما هي أبرز الأفكار الّتي أتت بها رواية "مذكّرات الأرقش"؟
بالنّسبة إلى هذه الرّواية، وإن كان لا يمكن تحويلها إلى وثيقة إيديولوجيّة أو إعلان إيمان، غير أنّ الأفكار الّتي تكاد تكون في عرف نعيمه عقائد ثابتة، لا تنفصل عن طريقة العيش والسّلوك الاجتماعيّ. "فالرّواية قبل كلّ شيء عمل فنّيّ، والأيديولوجيّة فيها تظلّ مرتبطة بالفنّ. ومن خلالها يجب اكتناهها [...] وما على الباحث القيام به هو دراسة الأيديولوجيّة في الرّواية من حيث كونُها مجموعةً من الأفكار والمعتقدات والتّصرّفات تتعلّق بشخصيّة أو شخصيّات روائيّة، أو طبقة أو حزب تتصارع داخل العمل الرّوائيّ، أو حتّى بالرّاوي نفسه" (متري بولس، 2001، ص 35، 36)."
هكذا يُطلق ميخائيل نعيمه الأفكار الّتي يراها تصبّ في سبيل الخير العامّ بابتكار شخصيّات تروي من دون أن تعظ، وتتّخذ مواقف تُعلّم بها انطلاقًا من خبراتها وثقافتها وفلسفتها.

أ‌.       وحدة الوجود
إنّ الحياة تتجدّد وتتحوّل من مادّة إلى طاقة ومن طاقة إلى مادّة. والحياة تتجلّى في جميع الكائنات ويتوحّد الكون بها ويكتمل، فلا وجود لكائن من دون وجود الآخر، حتّى نصل إلى العلاقة بالخالق ووحدة الوجود. هكذا يرى الأرقش النّجوم بعيني قلبه وفكره، فيجدها تتكامل وذاتَه: "أنا والنّجوم عالمان لا متناهيان. والعالمان يؤلّفان عالـمًا واحدًا لا متناهيًا هو الأرقش – ذلك الإنسان الصّغير المجهول الذي له وجه كرقعة من الخشب نخرها السّوس" (ميخائيل نعيمة، 1982، ص 22). وهذا الاتّحاد بالكون تُعمّقُه المعرفة، فتنصهر ذات الأرقش في عوالمه وتتحوّل الأشياء الموضوعيّة إلى حقائق ذاتيّة، يدركها ويعقِلها، ويعبّر عنها بالتصريح آنًا، وبالرّمز آونة أخرى.
و"الأرقش يملك من كرَم ربّه كلّ شيء: السّماء وما فيها، والأرض وما عليها. فهو من كلّها كوِّن، وبها كلّها يحيا" (ميخائيل نعيمه، 1982، ص 52). وهذا المعتقَد يرتكز على وحدة هذه التّعدّديّة في الكون، فالشّيء يصبح جزءًا من الكلّ ويمتلك الكلّ؛ والإنسان يضحي بكلّيّته للجميع. يقول الأرقش: "فلا لساني لساني وحدي. ولا عيني عيني وحدي" (ميخائيل نعيمة، 1982، ص 111). "أيّ النّاس ليس دعامة لحياة كلّ إنسان؟ إنّما تحيَون بعضُكم ببعض. فكيف لا تحيَون بعضُكم لبعض؟" (ميخائيل نعيمه، 1982، ص 120).

ب. الخلود
ينتهز الأرقش كلّ مناسبة وكلّ حدث في الرّواية لكي يغوص في أسرار الكون والوجود. فتتلاقى المتناقضات في أفكاره، ويحصل تجاوز وتخطٍّ للواقع العدمي، فيتفلّت من قيد الزّمان: "أنا والزّمان فارس ومطيّة. فلا هو يسبقني ولا أنا أسبقه. ومتى نبلغ الهدف فنحن لا فارس ولا مطيّة" (ميخائيل نعيمه، 1982، ص 45).
وأيّ هدف يريد الأرقش أن يبلغه؟ أتراه يكتفي بغبطة التّنعّم بالوجود الزّائل؟ ها هو يحاور الموت ويسائله، فيقول له الموت: "تخلَّ عن نفسك الزّائلة لنفسك الدّائمة [...] امحُ الأرقشَ الذي ما يزال عرضة للنّموّ والانحلال" (ميخائيل نعيمه، 1982، ص 57). وعندما يحاور بعضُه المعلوم بعضَه المجهول عن السّبيل الذي ستسلكه الذّات وعن المآل، إذ يسأل بعضُه المجهول: "ومن أين وإلى أين؟" يجيب بعضه المعلوم:"من الأزل وإلى الأبد" (ميخائيل نعيمه، 1982، ص 68). وهذا هو المبدأ الأساس لأيديولوجية نعيمة، يترجمها الأرقش مخاطبًا ذاته: "وإنّما أنت الأحمق يا أرقش. تظنّ أنّ من وهبك الأكوان لم يهبك سوى ثلاثة عقود من الأعوام لفهمها والاستمتاع بأجسادها وأرواحها. وما أدراك أنّه لم يهبْك الأبديّة إذ وهبك الكون والحياة؟ ثمّ من أدراك أنّ غفوة تغفوها وتدعوها الموت ليست محطّة من محطّات عمر يمتدّ من الأزل وإلى الأبد [...] وستشحذ غفوة الموت قابليّتك على الاستمتاع بالوجود. فتستفيق منها، وبك نَهَم جديد إلى حياة جديدة، مثلما تستفيق من غفوة ليلتك، وبك اشتياق إلى النّهار الآتي" (ميخائيل نعيمه، 1982، ص 92، 93).
فالأرقش يؤمن أنّ الموت محطّة من مراحل العمر: "وما أدراك أنّ المحتضر ليس على سفر، وأنّ آلامه في هذه النّاحية من القبر ليست زادًا له في النّاحية الأخرى من القبر؟ [...] وأيّ معنى لحياة يمحوها موت لا معنى له" (ميخائيل نعيمه، 1982، ص 97)؟ وإذا كان الأرقش يؤمن بعالمٍ آخرَ أوسعَ وأنقى، فإنّ سعيَه الدّائمَ لتحقيق ذاته هو في المعرفة، التي تؤمّن اتّحاده بالكون وبالذّات العظمى أي الله. وكلّ تجاوز للحالة العضويّة المادّيّة هي التصاق بالله. وهذه النّظرة الحلوليّة تتيح للإنسان بأن يتخطّى الشّرّ والألم. فيذوب الشّرّ ويضمحلّ، ويصبح الألم حافزًا وممرًّا إلى الله وسبيلًا للاتّحاد به.
"سُئل نعيمة عن معتقده فقال: "أعتقد بالتّقمّص اعتقادًا ثابتًا، وأظنّني أتيت هذا العالم قبل اليوم. وتعرّفت إلى من أعرفهم الآن في حالتَي الصّداقة والعداوة". ثمّ سُئل: "وما الغاية من الضّرب على وتيرة واحدة"؟ فأجاب: "لكي نُصهَر في بوتقة الكمال. حتّى إذا كُمّلنا، انتهينا إلى مصدرنا بالمعرفة إلى الله". ويقول في المسيح: "إنّه إنسان تألّه لا إله تأنّس. وإنّنا نظلّ هكذا دواليك تقمّصًا حتّى نصير مصيره" (وديع ديب، 1955، ص 96، نقلًا عن المكشوف سنة 2 ، عدد 72 ، ص 6).
يقول الأرقش: "الحياة مدرسة إلهيّة تعنى بتربية الآلهة. ولا ينال شهادتها إلّا الآلهة" (ميخائيل نعيمة، 1982، ص 51). والموت الذي يحاوره الأرقش معبَرٌ إلى دنيوات تتوالى لكي تصل بالنّاس إلى الخلود. يقول الموت: "وأنا ما أزال بهم أطويهم ثمّ أنشرهم، ثم أطويهم ثمّ أنشرهم، إلى أن يتقنوا ذلك الدّرس الأهمّ والأخير. ومتى أتقنوه وعاشوا به أصبحوا في غنًى عنّي" (ميخائيل نعيمه، 1982، ص 56).
ويدوّن الأرقش ما يعتقده سعيًا إلى معرفة ذاته: "أنا – أنا. ما أعرفه في هذه اللحظة عن نفسي هو كلّ ما أحتاج إلى معرفته. فالأرقش الذي كان من عشرين عامًا، والأرقش الذي كان من عشرين جيلًا، والأرقش الذي كان من ألف جيل قد اجتمعوا في أرقش هذه اللحظة، وأرقش هذه اللحظة ليس بغريب عنّي" (ميخائيل نعيمه، 1982، ص 66). وفي مكان آخر يقول: "أمّا نِعَم الوجود جميعها فمنذا يستطيع أن يستوعبها في يوم واحد، أو عام واحد، أو عمر واحد، بل في ألف عمر وعمر؟ إنّها لأكثر من أن تسَعَها عين أو أذن أو أنف، أو جيب أو بطن" (ميخائيل نعيمه، 1982، ص 107، 108).

ج. الازدواجيّة والتّفاعل الكوني
إنّ العالم الذي يعيش فيه الأرقش، ويروي عنه في مذكّراته، يعاني من الازدواجيّة المربكة. فالثّنائيّة موجودة في كلّ شيء حوله. و"لكلّ شيء آفة من جنسه". في الحياة موت، وفي الموت حياة. "المنجل سيف، والمعول بندقيّة، والقلم مدفع، والحبر بارود، والكلام رصاص. وإذا العمار دمار، والنّور ظلام، والحياة موت أحمر" (ميخائيل نعيمه، 1982، ص 112، 113).
وفي الرؤّيا التي تشبه إلى حدّ بعيد رؤيا يوحنّا في العهد الجديد، يعبّر الأرقش عن المصير المحتوم، حيث لا يبقى غيرُ أرقش واحد: "وحدي! ومن حولي خرائب المدنيّة المنكوبة ببنّائيها. ويا لها من خرائب عامرة بالذّكريات، آهلة بأشباح الفقر والتّرف، والذّل والصّلف، والحزن والفرح، والإيمان والإلحاد، والاستسلام والعناد، والولادة والموت، والقناعة والجشع، واللذّة والوجع" (ميخائيل نعيمه، 1982، ص 120، 121). "فالمفروض في السّيّد أن يسود لا أن يُساد، وأن يُطاع لا أن يُطيع، وأن يُملي لا أن يُملى عليه، فأين الإنسان – كما نعرفه اليوم – من كلّ ذلك"؟ (ميخائيل نعيمه، 1982، ص 78، 79).
هذا قدر الأرقش الذي يعيش ويتفاعل في إطار هذه الازدواجيّة الإنسانيّة والكونيّة. فـ"الحياة حياتان: حياة  نُحييها. وحياة تحيينا". و"الموت موتان: موت ننـزله بالغير، وموت ينْزله الغير بنا. موت نحيا به، وموت يحيا بنا" (ميخائيل نعيمه، 1982، ص 59). "إذن أنا أرقشان: واحد انسحب من حلقة البشر والتحف بالسّكوت ليتّصل بالعالم الأعلى ويسير معه. وآخر انحجب عن البشر بستار من الأسرار البشريّة، وهو يحاول تمزيق السّتار ليعود إلى حظيرة البشر. فهو من العالم الأدنى ويتوق إلى العالم الأدنى. كان بينه وبين هذا العالم حسابات قديمة لا بدّ من تصفيتها" (ميخائيل نعيمه، 1982، ص 67).
بين الأرقش والبحر علاقة قديمة. وهو يجذبه إليه كالأمّ الرّؤوم. فيناجيه مفاضلًا: "نحن بحران أيها البحر. ولكنّ الأرقش هو البحر الأوسع والأعمق والأبقى. فأنت يأتيك يوم تتقلّص فيه وتنضب. أمّا الأرقش فلا يتقلّص إلّا لينتشر، ولا ينضب إلّا ليمتلئ بما لا ينضب. أجل نحن بحران أيها البحر، والأرقش هو الأبقى" (ميخائيل نعيمه، 1982، ص 72، 73).
وعن الثنائيّة يقول في الرّجل والمرأة: "هذا يعني أنّنا منذ أن اتّخذنا طريق الازدواجيّة، لا نزال سائرين فيها إلى أن نبلغ نهاية هذه الطّريق ويعود الإنسان فيتوحّد، لا يبقى ذكرًا ولا أنثى. يرقى إلى ما فوق الذّكر والأنثى، إلى ما فوق الازدواجيّة. يعودد فيتوحّد لأنّ الله واحد والكون واحد" (بشارة السّبعلي، 1998، ص 43).
عقيدة نعيمة راسخة في وحدة الوجود، وفي الحياة والموت والخلود، وفي الازدواجيّة التي يجب أن تخلص إلى التّوحّد بالكون وبالله. وهذه العقيدة تنبع من إيمان مطلق بالله وبالإنسان الذي هو على صورته ومثاله. لذا تراه في أعماله الأدبيّة والفكريّة ينحو إلى الكمال، أي إلى المعرفة، فيجتنى من كلّ حادثة مسرىً إلى اللقاء الرّوحيّ بالآخر، الذي يتمثّل بالإنسان وبالكون. يقول نعيمة: "أن نبقى منقسمين ما بين الخير والشّرّ هذه ليست بمعرفة على الإطلاق. تبقى هناك في الجنّة شجرة حسب رواية التّوراة تدعى شجرة الحياة" (بشارة السّبعلي، 1998، ص 45).
وهو يعتبر أنّ الإنسان موجود في هذه الدّنيا قبل أن يولد، وبولادته يؤدّي حسابًا له مع الحياة: "ما من طفل إلّا كان قبل أن يولد، وكان له مع الحياة حساب" (ميخائيل نعيمه، 1982، ص 58). وهذا الحساب يكتمل بالعمل الخلاّق، الذي هو نعمة من لدن الله، فهو "السّلّم التي بها يرقى الإنسان إلى الله – من كائن لمقدرته على الخلق حدود، إلى كائن يخلق، وما لمقدرته حدّ أو نهاية" (ميخائيل نعيمه، 1982، ص 110).

ه‌.    الحرّيّة والعدل
تتحقّق الحياة بكلّيّتها في إرادة الحياة أي في الحرّيّة الّتي تعدّ شرطًا لصيقًا بكينونة الإنسان. فإرادة الحياة هي الحياة. ومذهب الحرّية هذا "مذهب سياسيّ فلسفيّ يُقرّر أنّ وحدة الدّين ليست ضروريّة للتّنظيم، وأنّ القانون يجب أن يكفل حرّيّة الرّأي والاعتقاد [...] واحترام استقلال الأفراد، أو القول بضرورة التّسامح في شؤونهم، أو القول بوجوب الثّقة بما ينشأ من نظام الحرّيّة من النّتائج الـمُسعدة" (جميل صليبا، 1971، ج1، ص 465، 466).
ولن تكون هناك سعادة ما دام في الأرض أشياء يجهلها الإنسان ولا يستطيع السّيطرة عليها، وأوّل هذه الأشياء نفسه؛ لأنّ الإنسان يعيش في عالم تتنازعه أهواءُ كثيرة، فحديثه عن السّعادة خرافة، إلّا إذا استطاع أن يحقّق المعرفة الكاملة، التي بها - لا بغيرها - يستطيع تحقيق الحرّيّة الكاملة. فإذا أصبح الإنسان حرًّا من الضوابط كلّها، أصبح سعيدًا. وعندئذٍ لا يتحدّث عن السّعادة لأنّها تصبح بعضًا منه، كما النّور ملازم للشّمس.
ويكتب الأرقش عن العدل. ما أسمى العدل والقضاء! قضاء الله في صنيعته، وعدله في جميع مخلوقاته! وحبّذا لو كان عدل الأرض مضاهيًا لعدل السّماء (انظر: ميخائيل نعيمه، 1982، ص 63). فهناك العدالة بمفهومها الشّائع، أي العدالة التي تأتينا عن يد حاكم؛ وهنالك العدالة التي تأتينا من مصدر أعلى بكثير. وهي تعطي كلّ إنسان ما يحتاج إليه ليحقّق نفسه، سواء في ذلك الأمور المادّيّة أم الرّوحيّة. ولأنّنا لا نزال في طريقنا إلى تحقيق أنفسنا، فلا سبيل إلى الكلام على العدالة الحقّ.
والسّلطةُ التي تحكم الأرض والعباد، بِيَدها العدل. فإذا انحرفت باتّجاه نزواتها ونوازعها، فإنّها ستجرّ النّاس إلى الويلات والحروب. ويتحوّل النّاس عبيدًا للسّلطة، بدلًا من أن تكون السّلطة بيدهم. فالّذين يمجّدون السّلطة الأرضيّة يمجّدون العبوديّة.
عندما خرج الأرقش إلى الشّارع، ووجد النّاس يتدافعون ويتهافتون على تحيّة أحد ملوك الأرض العظام، سمعهم يهتفون:" ليحيَ الملك"! فقادته إذّاك أفكاره إلى التّعمّق في ما يراه وبما يسمعه، فإذا المعنى: "ليحيَ الرّقّ! والموت للحرّيّة! [...] ليس العبد من يُباع ويُشرى في سوق النّخاسة. وإنّما العبد من قلبه سوق للنّخاسة" (ميخائيل نعيمه، 1982، ص 65، 66). فليس هناك شيء قائم في ذاته اسمه الحرّيّة، بل ما ندعوه حرّيّة هو نتيجة سلوك يؤدّي بنا إلى معرفة ما نريد قبل أن نسعى إليه. فهناك أشياء كثيرة ليست في مطلق سلطاننا؛ وهي متعلّقة بأشخاص كثيرين، وبظروف قد تساعدنا في بلوغ ما نصبو إليه، أو قد تعاكسنا وتمنعنا من تحقيق ما نريد.
إذًا، هناك قيود للحرّيّة هي بنسبة جهلنا أو معرفتنا ما نريد. والإرادة لا يمكن أن تكون حرّة إلّا حيث تكون المعرفة. ونحن ما زلنا بعيدين عنها، لذا فكلّ كلام على الحرّيّة هو تجديف باسم الحرّية. إذ لا يمكن لإنسان أن يصبح حرًّا إلّا إذا أصبح كاملًا. فعلينا إذًا بمعرفة ذواتنا لكي نسير على دروب الحرّيّة. يقول الأرقش:"وإن يكن من مشكل في حياتي فهو شوقي إلى معرفة نفسي، لا غير [...] فالإنسان للحياة لا للموت. وللمعرفة لا للجهل. وللحرّيّة لا للعبوديّة" (ميخائيل نعيمه، 1982، ص 75، 76).      
وبما أنّ هناك قدرةً تتحكّم بالكون وبمن فيه، فإن لم يكن عملنا منسجمًا كلّ الانسجام مع هذه القدرة، فسيأتي مناقضًا لما ترسمه، وبالتّالي سيكون جهلنا سببًا في انحرافنا عن جـادّة الصّواب. وسيكون سعينا إلى الحرّيّة عقيمًا. وعندما سأل الأرقش نفسه عمّا تريد (انظر: ميخائيل نعيمه، 1982، ص 124، 125) أجابته بأنّها تريد أن تعرف كلّ شيء، لأنّها تريد أن تتحرّر من كلّ شيء. فلا حرّيّة بدون معرفة، بل عبوديّة؛ ولا حياة بغير حرّيّة، بل موت.

وكأنّ الأرقش يقترح برنامجًا إصلاحيًّا لتطوير نظام المجتمع. فلو ألقت البشريّة بمقاليدها إليه، لجعل منها جيشًا منظّمًا ومدرّبًا ومزوّدًا بأحدث المعدّات، لوصل مشارق الأرض بمغاربها، ولتذليل وعورها، وتلقيح عقيمها، وتفجير ينابيعها، وكسوة عاريها بالخصب، ونثر المزارع والدّساكر في أرجائها. فلِمَ لا يكون للنّاس جيش منظّم يعمل للخير، لا للقتل والتّدمير والإبادة؟! (انظر: ميخائيل نعيمه، 1982، ص 113، 114).  
ويعود اللحن الدّينيّ إلى كلام الأرقش، فإذا صدى الآيات الكريمة التي يختم بها الرّؤيا قد خالجت نفسه ثانيةً كأنّه تجويد من سورة القلم: ﴿والقلم وما يسطرون. ما أنت بنعمة ربّك بمجنون وإنّ لك لأجرًا غير ممنون وإنّك لعلى خلق عظيم... ،،  ويجد أنّه ما زال على أرض الواقع العدميّ:
 "إلّا أنّ النّاس لا يعقلون
 ولذلك هم يتنابذون، ولا يتعاونون
وعلى فضلات ما تخلقه أيديهم
 من بركات الأرض والسّماء يتقاتلون" (ميخائيل نعيمه، 1982، ص 114).
 غريب أمر الأرقش. مثقّف ساكت، "ما هو بالمجنون، يكتب ويقرأ العربيّة والإنكليزيّة والإسبانيوليّة والفرنسيّة، والله يعرف ماذا بعد [...] لا يأكل لحمًا ولا سمكًا" (ميخائيل نعيمه، 1982، ص 9). يخدم في مقهى عربيّ بأجر زهيد. لم يطلب زيادة على أجره، وما سمعه صاحب المقهى مرّة يتذمّر من شيء. "عندما يُسأل عن اسمه يجيب – لا أعرف. اسم أبيك- لا أعرف. من أين أنت وكم لك من العمر- لا أعرف. [...] وحين لا يكون عندنا زبائن كان يجلس وحده على كرسيّ ويُسند رأسه بيديه، ويأخذ يحملق في الأرض أمامه، ساعة، ساعتين، ثلاث ساعات، وهو يكاد لا يتحرّك كأنّه مسمَّر في مكانه، أو كأنّ عينيه من زجاج" (ميخائيل نعيمه، 1982، ص 9). 
غريب أمر هذا الرّجل؛ ولكنّ الأغرب ما جاء في مذكّراته: "أنا لا أعرف لذاتي اسمًا ولا أرضى أن أُعرَف باسم واحد. لأنّني أولد ولادةً جديدة كلّما تولّد في رأسي فكرٌ جديد". [...] وما دمت فكرًا متجسّدًا لا جسدًا مفكّرًا فأنا في كلّ لحظة، أو أقلّ منها، إنسان جديد، أمّا جسمي، وإن تغيّر، فتغيّره بطيء" (ميخائيل نعيمه، 1982، ص 16).
إن لم يكن الرّجل مجنونًا حقًا، فهو مفكّرٌ وفيلسوف كبير. من منّا يعرف لـِمَ وُلد؟ و"هل يدرك النّاس يومًا أنّ سجلاّتهم ليست سوى كتابةٍ على الماء، وأن لا سجلّ يدوم إلّا سجلّ الكون الرّهيب حيث لا ينطلق صوت، ولا تُذرَف دمعة [...] ولا تتحرّك شهوة إلّا تنطبع على صفحات الأبديّة؟ هناك لا أسماء ولا ألقاب، ولا أنساب، ولا رتب، بل أعمال وأفكار وعواطف لا غير. متشابهة ولكنّها مختلفة، ومتّحدة ولكنّها منفصلة. ومدوّنو السّجلّ الأعظم يميّزون بين هذه وتلك" (ميخائيل نعيمه، 1982، ص 16، 17).
سكِر الأرقش سكرةً علويّة ودّ لو أنه لم يصحُ منها، فكتب: "لعلّها ما يدعونه "غبطة الوجود" انسكبت عليّ بغتةً انسكاب أشعّة الشّمس على كرة من البلّور. فلا أنا من لحم ودم. ولا أنا سجين زمان ومكان. ولا أنا أنا. فكأنّ الكائنات منظورها وغير منظورها قد ذابت فيّ وذبت فيها. فالشّمس والقمر والنّجوم منّي وأنا منها، وهي فيّ وأنا فيها. ومثلها الأرض بكلّ ما على سطحها وفي جوفها وجوّها من الغرائب والعجائب. الكلّ ذَوبٌ لا يوصف من محبّة لا توصف" (ميخائيل نعيمه، 1982، ص 114، 115).

خـاتمة
لم ينقطع ناسك الشّخروب عن النّاس إلّا لأنّه يحبّ الحياة. ولم يكن تنسّكه عزلةً سلبيّة؛ إنّما كان رغبةً بالاتّحاد بالنّاس كأجزاء عزيزة من الكون. يقول نعيمة على لسان الأرقش: "اكتمال إنسان واحد هو الكفيل باكتمالي واكتمال كلّ النّاس" (ميخائيل نعيمه، 1982، ص 77). ومذكّرات الأرقش الّتي أتت عصارة فكر فلسفيّ ينشد الكمال، بدأ نعيمة بكتابتها سنة 1917 وأتمّها سنة 1949، أي أنّها اختمرت في ذهنه ووجدانه ثلاثين سنة ونيّفًا، كان خلالها قد غاص في التّأمّل في شؤون العالم الدّنيوي والعالم العلويّ. واختبر العواطف الإنسانيّة، وحلّل الظّواهر الطّبيعيّة. وارتقى على سلّم القيم، فانقشعت له آفاق عالم لا يدركه إلّا من تطهّر من رجس الشّرور، وتعالى عن المادّة والميول الأرضيّة، ووظّف ذاته خادمًا للحكمة والمعرفة.
ومهما تلاقت أفكارنا وتقاطعت، أو تباعدت وتنافرت، فإنّ تحليل الآراء التي يوردها نعيمة في مذكّرات الأرقش يبقى صعبًا وناقصًا، لأن عمق أفكاره وأيديولوجيّته يتجاوز الحيّز الّذي نعالجه عادة في الأعمال الأدبيّة العاديّة. ولكنّ البحث يلذّ عندما نغرف من مبادئه الإنسانيّة السّامية الّتي تحفل بها رواية "مذكّرات الأرقش"، ونستمتع بغرابة منطلقاته الدّينيّة والفلسفيّة. ويشُوقنا الأسلوب السّرديّ لكلّ واقعة وحادثة، كما تغرينا سلاسة الأسلوب الّذي يحفل بالتّوازن المعنويّ والإيقاعيّ، وبالمتعارضات الّتي تتواتر بسرعة فتشرّع نوافذ المخيّلة، وتنتقل بالفكر من صورة إلى أخرى، ومن عالم حسّيّ إلى فضاء هيوليّ.

ويبقى أن أشير إلى أنّي، ونظرًا إلى عمق الأفكار التي حفلت بها مذكّرات الأرقش، وصعوبة إدراك جميع مرامي الأديب واتّجاهاته الفكريّة، أُقرّ بأنّ أمورًا لم أفهمها وبقيت تشغل أفكاري. فكيف يرضى ميخائيل نعيمة بأن يصوغ أيديولوجيّته ويرتقي بأفكاره السّامية في رواية "مذكّرات الأرقش" انطلاقًا من جريمة قتل اقترفها "شكيب نعمان" وأقرّ بها، وبرّر ذلك بأنّه فوق ما يتحمّله جسده ودون ما تشتاقه نفسه؟! وبعد، لِـمَ يبتكر هذه الشّخصيّة (المجرمة) الغريبة عن طبائع البشر، المتمرّدة على أعرافهم وتقاليدهم؟ هذه الجريمة النّكراء في الرّواية تذكّرنا بانتحار "جميلة" في رواية "العاقر". فنعيمة الذي نعرفه رائدًا للفنّ القَصصيّ في عصر النّهضة، وهو المصلح الاجتماعي والمفكّر والأديب والشّاعر، سيبقى يعيش حياته بعد الحياة في أفكار النّاس. وسيبقى بعض النّاس يرون فيه شيخ طريقة؛ والبعض الآخر ناسكَ الشّخروب الأديب الرّفيع.


فهرس المصادر والمراجع

·       أبو جهجه، خليل (2004). الرّؤية الكونيّة في أدب ميخائيل نعيمة، لبنان: منشورات اتّحادّ الكتّاب اللبنانيّين.
·       بولس، متري (1985). الخوارق في روايات ميخائيل نعيمة وأقاصيصه، ج 1، جونيه، لبنان: مطبعة فؤاد بيبان وشركاه.
·       بولس، متري (2001). في الفنّ القصصيّ، ج 1، ط 1، بيروت، لبنان: Agate.
·     حبيقة، الخوراسقف بطرس (لا تاريخ). تاريخ بسكنتا وأسرها، طبعة 2، بسكنتا: الحركة الثّقافيّة في بسكنتا والجوار.
·       ديب، وديع (1955). الشّعر العربيّ في المهجر الأمريكي، بيروت: دار ريحاني للطّباعة والنّشر.
·       السّبعلي، بشارة (1998). ميخائيل نعيمة يحدّثني، بيروت: دار صادر.
·       السّيّد، شفيع (1972). ميخائيل نعيمة، منهجه في النّقد واتّجاهه في الأدب، القاهرة: عالم الكتب.
·       صليبا، جميل (1971). المعجم الفلسفيّ، بيروت: دار الكتاب اللبنانيّ.
·       نعيمة، ميخائيل (1979). المجموعة الكاملة، بيروت: دار العلم للملايين.
·       نعيمة، ميخائيل (1959). سبعون، المرحلة الأولى، بيروت: دار صادر.
·       نعيمة، ميخائيل (1982). مذكّرات الأرقش، طبعة 7، بيروت: مؤسّسة نوفل.