الأربعاء، 30 أغسطس 2017

(كلمة الدّكتور منير معلوف في الاحتفال بإطلاق كتاب الطّبيب الطّريد تكريمًا لمؤلّفه الدّكتور طانيوس موسى أبو ناضر)
أيّها السّيّدات والسّادة
في تكريم المرحوم الدّكتور طانيوس أبو ناضر وإطلاق كتابه "الطّبيب الطّريد"، واستكمالًا للبحوث، وجدنا في سجلّات رعيّة مار روكز في بسكنتا ما يلي:
باب الأكاليل 1912
أنا الخوري نوهرا أبو ناضر كلّلت الدّكتور طانيوس موسى الخوري مارون أبو ناضر، أمّه مريم ابنة الخوري صالح الحدثي، على زينة ابنة حبيب صوايا من قرية بتغرين من طائفة الرّوم الكاثوليك.
الأشبينان: فضّول حرب وكاملة زوجة سليم جبرايل الهراوي، في كنيسة مار روكز، وفسّح لهما سيادة المطران بولس مسعد. فرنساويان.
(تسجيل) الثّلاثاء في 15 تشرين الأوّل 1912
باب الوفيّات 1929
توفّي الدّكتور طانيوس أبو ناضر في بيروت في 20 شباط 1929 ودُفن في 20 شباط في كنيسة مار روكز في بسكنتا.

أمّا قصّتي مع كتاب "الطّبيب الطّريد" فطويلة، أختصرها بكلمات: قرأته بنسخته الأصلية سنة 1983 عندما أعارني إيّاه أحد الأقارب فوجدت فيه سيرة ذاتيّة مشوّقة. ثمّ أضعت أثره بعد وفاته وبحثت كثيرًا فلم أجد إلّا نسخة مصوّرة منه عند أحد الأصدقاء. فنشرته على موقعي الإلكتروني بطريقة PDF وعملت زهاء سنتين على إعادة كتابته وتنقيحه وتحقيقه، وعندما عرضتُه على الحركة الثّقافيّة في بسكنتا والجوار، تبنّت طباعته ونشره بمباركة وتغطية وزارة الثّقافة اللبنانيّة.
لِمَ الاهتمام بهذا الكتاب وبكاتبه تحديدًا؟
1.    في اللغة والأسلوب: بلاغة فريدة لافتة، تجعلنا نتساءل: من أين له هذا؟ ويأتي الجواب: من بسكنتا إلى مدرسة مار يوسف في عينطورة إلى معهد الطّبّ الفرنسيّ في بيروت، ثمّ إلى نيل شهادته في الآستانة. ولكنّ الأهم هو هذه البيئة الثّقافيّة البسكنتاويّة الّتي نشأ فيها. فإذا قرأت الكتاب ستتعرّف حالًا إلى بيئة المعلّم عبد الله غانم وفيلسوف الشّخروب ميخائيل نعيمة والشّاعر الحزين رشيد أيّوب والفيلسوف سليمان الكتّاني وغيرِهم الكثيرين. وأبو ناضر في هذا الكتاب يسرد الأحداث بطريقة دقيقة بسيطة واقعيّة ومشوّقة، ويعلّق عليها باسطًا أفكاره وشعوره بعناية وصدق. وينقل الحوارات الّتي تزيد الحبْكة تماسكًا وتعميقًا، وتكشف انفعالات المتحاورين وتبيّن جوانب شخصيّاتهم. ناهيك بالوصف الدّقيق الّذي يرافق الأحداث وقد يستمهلها أو يقطعها من حين إلى آخر، فيوضح تأثير الموصوفات في إغناء الأحداث، ويزيد الحلقات السّرديّةَ تماسكًا. وهو يستخدم المفردات المعجميّة اللازمة المطابقة لمدلولاتها بعامّة، وحين تحيد هذه المدلولات تتّخذ الدّوالّ أبعادًا رمزيّة غنيّة وموحية، مـمّا يدلّ على متانة لغته، مع أنّه طبيب وليس متخصّصًا في اللغة والأدب. زد على ذلك بعض السّجْع اللطيف، الّذي يَبرُز أحيانًا عند الانفعال الشّديد وعندما تجيش العاطفة.
2.    في التّوثيق والتّأريخ: يخبر أبو ناضر قصّة هروبه بالتّفصيل خلال نحو أربع سنوات، أي منذ اندلاع الحرب العالميّة الأولى عام 1914 حتّى نهاية شهر شباط من عام 1918. وقصّته التّاريخيّة هذه تعدّ من نوع السّيرة الذّاتيّة، وقد روى فيها المطاردات والتّعقّبات والظّلم الّذي ألحقته الحكومة العسكريّة التّركيّة بالنّاس، وأسباب المجاعة ووقائعها ونتائجها، وأعداد القتلى في بعض القرى. ولعلّ هذه القصّة بحقيقتها وواقعيّتها وحسن سردها وبلاغة تعابيرها قد أوحت بالكثير لأدباءَ كتبوا بَعده رواياتٍ عن هذه الحقبة من التّاريخ (كما الرّغيف لتوفيق يوسف عوّاد 1939)، كما أفادت مؤرّخين في توثيقهم لوقائعَ جرت خلال أربع سنوات، إبّان الحرب الكونيّة الأولى في لبنان والمنطقة.
3.    مستوى الموضوع: إنّ هذا الكتاب بمستواه الموضوعاتيّniveau thématique  يهدف إلى تغذية الرّوح الوطنيّة والأخلاقيّة والإنسانيّة بعامّة، والدّفع بالقارئين إلى رفض الظّلم، علاوة على رواية الأخبار لتذكّر الماضي والاتّعاظ بتجاربه.
4.    قيمته الأدبيّة: إنّ أول من كتب في فنّ السّيرة الذّاتيّة هو الأديب الفرنسيّ جان جاك روسّو الّذي أرسى قواعد هذا الفن حين صدر كتابه الاعترافات  les confessions 1789 (تاريخ الثّورة الفرنسية). وعند العرب، يعتقد كثيرون أنّ الدّكتور طه حسين هو الرّائد والأب الرّوحيّ لهذا الفنّ في الأدب العربيّ الحديث، فقد صدر الجزء الأول من كتابه "الأيام" عام 1926 والجزء الثاني عام 1939. وقد بحثت كثيرًا فلم أجد أحدًا كتب سيرة ذاتيّة قبل ذلك بحسب المواصفات والخصائص الّتي نعرفها في أدب السّيرة الذّاتيّة الحديثة. وهذا ما يجعلني أجزم أنّ الدّكتور طانيوس أبو ناضر هو أوّل من كتب سيرته الذّاتيّة بشكل متقن وفنّيّ عند العرب. فلقد نشر كتابه هذا في شكل مقالاتٍ متسلسلةً في جريدة البشير البيروتيّة (أصدرها رئيس الآباء اليسوعيين الأب مونو) في العامين 1918 و 1919. وعندما طُبع هذا الكتاب أوّلَ مرّة في المطبعة الكاثوليكيّة في بيروت عام 1920 لم يطّلع كثيرون عليه بسبب نُدرته. فكتاب "الطّبيب الطّريد" إذًا يُعدّ أوّلَ سيرة ذاتيّة عند العرب.
إنّنا نضع هذا الكتاب القيّم بين أيديكم ليبقى ذُخرًا للمؤرّخين وللأجيال القادمة. وعسى أن يُقبل الطّلّاب على قراءته بعناية، فيعمدون إلى دراسة هذه السّيرة الذّاتيّة بمؤازرة المنسّقين كقصّة متكاملة، ويدرسون ما وثّقه الكاتب ببيانات مطالعة: كأسماء الأشخاص والعائلات (بعض أقاربهم الأحياء يعرف الكثير من هذه الوقائع) وألقابِ مسؤولين حكوميّين وعسكريّين ومحلّيّين ووظائفِهِم ورتبهم، وأحوالِ الطّقس والأحداث والوقائع الّتي وقعت بالتّفاصيل والتّواريخ إبّان الحرب، والمدن والقصَباتِ والقرى والأماكن والمواقع والاتّجاهاتِ والمعالم والأديار والكنائس والتّلال والجبال والأودية والطّرقاتِ والمسالك والمغاور والغابات والأعشاب والنّباتات والحيوانات البرّيّة.
إنّني إذ أشكر الحركة الثّقافيّة في بسكنتا والجوار، وبخاصّة أمينها العامّ، الأستاذ فرنسوا حبيقة، الّذي كان لنا إزرًا وسندًا في جميع المراحل، أشكر أيضًا الدّكاترة والأساتذة المحاضرين على هذه المعلومات القيّمة الّتي أغنَونا بها.
وأشكركم جميعًا لحضوركم الّذي زيّن اللقاء الثّقافي. وقد تُتاح الظّروف لنا لنبدأ الحلْقة الثّانية من عملنا هذا، أي ببدء العمل على إنتاج فيلم وثائقيّ أو غير وثائقي متكامل يجسّد ما ورد في هذا الكتاب.

وإلى محطّات ثقافيّة أخرى. 
https://drive.google.com/file/d/0B5x-nvsBYlZseUJFdnVfclk2NVE/view


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق